الحج
قال الله تعالى : ( إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة ( 1 ) مباركا وهدى للعالمين – فيه آيات بينات مقام إبراهيم ، ومن دخله كان آمنا – ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ، ومن كفر فزن الله غني عن العالمين ” .
تعريفه : هو قصد مكة ، لان عبادة الطواف ، والسعي والوقوف بعرفة ، وسائر المناسك ، استجابة لامر الله ، وابتغاء مرضاته . وهو أحد أركان الخمسة ، وفرض من الفرائض التي علمت من الدين بالضرورة . فلو أنكر وجوبه منكر كفر وارتد عن الاسلام . والمختار لدى جمهور العلماء ، أن إيجابه كان سنة ست بعد الهجرة ، لانه نزل فيها قوله تعالى : ( وأتموا الحج والعمرة لله ) . وهذا مبني على أن الاتمام يراد به ابتداء الفرض . ويؤيد هذا قراءة علقمة ، ومسروق ، وإبراهيم النخعي : ” وأقيموا ” رواه الطبراني بسند صحيح . ورجح ابن القيم ، أن افتراض الحج كان سنة تسع أو عشر .
فضله : رغب الشارع في أداء فريضة الحج ، وإليك بعض ما ورد في ذلك :
( 1 ) ” ببكة ” أي بمكة .
ما جاء في أنه من أفضل الاعمال : عن أبي هريرة قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أي الاعمال أفضل ؟ قال : ” إيمان بالله ورسوله ” قيل : ثم ماذا ؟ قال : ” ثم جهاد في سبيل الله ” قيل : ثم ماذا ؟ قال : ” ثم حج مبرور ” . والحج المبرور هو الحج الذي لا يخالطه إثم . وقال الحسن : أن يرجع زاهدا في الدنيا ، راغبا في الاخرة . وروي مرفوعا – بسند حسن – إن بره إطعام الطعام ، ولين الكلام .
ما جاء في أنه جهاد :
1 – عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني جبان ، وإني ضعيف ، فقال : ” هلم إلى جهاد لا شوكة فيه : الحج ” رواه عبد الرزاق ، والطبراني ، ورواته ثقات .
2 – وعن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” جهاد الكبير ، والضعيف ، والمرأة ، الحج ” رواه النسائي بإسناد حسن .
3-وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : يا رسول الله ، ترى الجهاد أفضل العمل ، أفلا نجاهد ؟ قال : ” لكن أفضل الجهاد : حج مبرور ” رواه البخاري ، ومسلم .
4 – ورويا عنها أنها قالت : قلت : يا رسول الله ألا نغزو ونجاهد معكم ؟ قال : ” لكن أحسن الجهاد وأجمله : الحج ، حج مبرور ” قالت عائشة : فلا أدع الحج بعد إذ سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ما جاء في أنه يمحق الذنوب : 1 – عن أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” من حج فلم يرفث ( 1 ) ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه ” رواه البخاري ، ومسلم .
2 – وعن عمرو بن العاص قال : لما جعل الله الاسلام في قلبي أتيت
( 1 ) ” يرفث ” : يجامع . ” يفسق ” يعصى . ” كيوم ولدته أمه ” : أي بلا ذنب .
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : ابسط يدك فلا بايعك . قال : فبسط فقبضت يدي فقال : ” مالك يا عمرو ؟ ” قلت : أشترط ، قال : ” تشترط ماذا ؟ ” قلت : أن يغفر لي ؟ قال : ” أما علمت أن الاسلام يهدم ما قبله . وأن الهجرة تهدم ما قبلها ، وأن الحج يهدم ما قبله ” رواه مسلم .
3 – وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” تابعوا ( 1 ) بين الحج والعمرة ، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب . كما ينفي الكير خبث ( 2 ) الحديد ، والذهب ، والفضلة ، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة ” رواه النسائي ، والترمذي وصححه . ما جاء في أن الحجاج وفد الله : عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” ” الحجاج ، والعمار ، وفد الله ، إن دعوه أجابهم ، وإن استغفروه غفر لهم ” ، رواه النسائي ، وابن ماجه ، وابن خزيمة ، وابن حبان في صحيحيهما ، ولفظهما : ” وفد الله ثلاثة ، الحجاج والمعتمر ، والغازي ” .
ما جاء في أن الحج ثوابه الجنة : 1 – روى البخاري ومسلم ، عن أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما ، والحج المبرور ليس له جزاء الا الجنة ” .
2 – وروى ابن جريج – بإسناد حسن – عن جابر رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : هذا البيت دعامة الاسلام ، فمن خرج يؤم ( 3 ) هذا البيت من حاج أو معتمر ، كان مضمونا على الله ، إن قبضه أن يدخله الجنة ” وإن رده ، رده بأجر وغنيمة ” .
فضل النفقة في الحج : عن بريدة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” النفقة في الحج
( 1 ) ” تابعوا ” أي والوا بينهما وأتبعوا أحد النسكين الاخر ، بحيث يظهرا . ( 2 ) ” خبث ” : وسخ ” الكير ” : الالة التي ينفخ بها الحداد والصائغ النار . ( 3 ) ” يؤم ” أي يقصد .
كالنفقة في سبيل الله : الدرهم بسبعمائة ضعف ” رواه ابن أبي شيبة ، وأحمد ، والطبراني ، والبيهقي ، وإسناده حسن . الحج يجب مرة واحدة : أجمع العلماء على أن الحج لا يتكرر ، وأنه لا يجب في العمر إلا مرة واحدة – إلا أن ينذره فيجب الوفاء بالنذر – وما زاد فهو تذوع . فعن أبي هريرة قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ” يا أيها الناس ، إن الله كتب ( 1 ) عليكم الحج فحجوا ” ، فقال رجل : أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت حتى قالها ثلاثا ثم قال صلى الله عليه وسلم ” لو قلت : نعم ، لوجبت ، ولما استطعتم ” ثم قال : ” ذروني ما تركتكم ، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم ، واختلافهم على أنبيائهم ، فزذا أمرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شئ فدعوه ” رواه البخاري ومسلم . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ” يا أيها الناس كتب عليكم الحج ” فقام الاقرع بن حابس ، فقال : أفي كل عام يا رسول الله ” فقال : ” لو قلتها لوجبت ، ولو وجبت لم تعملوا بها ، ولم تستطيعوا ، الحج مرة ، فمن زاد فهو تطوع ” . رواه أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، والحاكم ، وصححه . وجوبه على الفور أو التراخي : ذهب الشافعي ، والثوري ، والاوزاعي ، ومحمد بن الحسن إلى أن الحج واجب على التراخي ، فيؤدى في أي وقت من العمر ، ولا يأثم من وجب عليه بتأخيره متى أداه قبل الوفاة ، لان رسول الله صلى الله عليه وسلم أخر الحج إلى سنة عشرة ، وكان معه أزواجه وكثير من أصحابه ، مع أن إيجابه كان سنة ست فلو كان واجبا على الفور لما أخره صلى الله عليه وسلم . قال الشافعي : فاستدللنا على أن الحج فرضه مرز في العمر ، أوله البلوغ ، ( ) ” كتب ” أي فرض .
وآخره أن يأتي به قبل موته . وذهب أبو حنيفة ، ومالك ، وأحمد ، وبعض أصحاب الشافعي ، وأبو يوسف إلى أن الحج واجب على الفور . لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من أراد الحج فليعجل ، فإنه قد يمرض المريض ، وتضل الراحلة ، وتكون الحاجة ” . رواه أحمد ، والبيهقي ، والطحاوي ، وابن ماجه . وعنه أنه صلى الله عليه وسلم قال : ” تعجلوا الحج – يعني الفريضة – فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له ” رواه أحمد ، والبيهقي ، وقال ما يعرض له من مرض أو حاجة . وحمل الاولون هذه الاحاديث على الندب ، وأنه يستحب تعجيله والمبادرة به متى استطاع المكلف أداءه .
شروط وجوب الحج اتفق الفقهاء على أنه يشتررط لوجوب الحج ، الشرط الاتية :
1 – الاسلام . 2 – البلوغ . 3 – العقل . 4 – الحرية . 5 – الاستطاعة .
فمن لم تتحقق فيه هذه الشروط ، فلا يجب عليه الحج . وذلك أن الاسلام ، والبلوغ ، والعقل ، شرط التكليف في أية عبادة من العبادات . وفي الحديث : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” رفع القلم عن ثلاث ، عن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصبي حتى يشب ، وعن المعتوه حتى يعقل ( 1 ) . والحرية شرط لوجوب الحج ، لانه عبادة تقتضي وقتا ، ويشترط فيها
( ! ) تقدم الحديث في الاجزاء السابقة .
الاستطاعة ، بينما العبد مشغول بحقوق سيده وغير مستطيع . وأما الاستطاعة ، فلقول الله تعالى : ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ( 1 )
بم تتحقق الاستطاعة ؟ تتحقق الاستطاعة التي هي شرط من شروط الوجوب بما يأتي :
1 – أن يكون المكلف صحيح البدن ، فإن عجز عن الحج لشيخوخته ، أو زمانة ، أو مرض لا يرجى شفاؤه ، لزمه إحجاج غيره عنه إن كان له مال ، وسيأتي في ” مبحث الحج عن الغير “
2 – أن تكون الطريق آمنة ، بحيث يأمن الحاج على نفسه وماله . فلو خاف على نفسه من قطاع الطريق ، أو وباء ، أو خاف على ماله من أن يسلب منه ، فهو ممن لم يستطع إليه سبيلا . وقد اختلف العلماء فيما يؤخذ في الطريق ، من المكس والكوشان ، هل يعد عذرا مسقطا للحج أم لا ؟ . ذهب الشافعي وغيره ، إلى اعتباره عذرا مسقطا للحج ، وإن قل المأخوذ . وعند المالكية : لا يعد عذر ، إلا إذا أجحف بصاحبه أو تكرر أخذه . 3 ، 4 – أن يكون مالكا للزاد ، والراحلة . والمعتبر في الزاد : أن يملك ما يكفيه مما يصح به بدنه ، ويكفي من يعوله كفايز فاضلة عن حوائجه الاصلية ، من ملبس ومسك ، ومركب ، وآلة حرفة ( 2 ) حتى يؤدي الفريضة ويعود . والمعتبر في الراحلة أن تمكنه من الذهاب والاياب ، سواء أكان ذلك عن طريق البر ، أو البحر ، أو الجو . وهذا بالنسبة لما لا يمكنه المشي لبعده عن مكة .
( 1 ) أي فرض الله على الناس حج البيت من استطاع منهم إليه سبيلا . ( 2 ) لا تباع الثياب التي يلبسها ، ولا المتاع الذي يحتاجه ، ولا الدار التي يسكنها ، وإن كانت كبيرة ، تفضل عنه ، من أجل الحج .
فأما القريب الذي يمكنه المشي ، فلا يعتبر وجود الراحلة في حقه ، لانها مسافة قريبة يمكنه المشي إليها . وقد جاء في بعض روايات الحديث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسر السبيل بالزاد والراحلة . فعن أنس رضي الله عنه ، قال : قيل يا رسول الله ما السبيل ( 1 ) ؟ قال : ” الزاد والراحلة ” رواه الدارقطني وصححه . قال الحافظ : والراجح إرساله : وأخرجه الترمذي من حديث ابن عمر أيضا ، وفي إسناده ضعف . وقال عبد الحق : طرقه كلها ضعيفة . وقال ابن المنذر : لا يثبت الحديث في ذلك مسندا ، والحصيح رواية الحسن المرسلة . وعن علي رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج ، فلا عليه أن يموت إن شاء يهوديا ، وإن شاء نصرانيا ، وذلك أن الله تعالى يقول : ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ) رواه الترمذي ، وفي إسناده ” هلال ” ابن عبد الله ، وهو مجهول ، و ” الحارث ” وكذبه الشعبي وغيره . والاحاديث ، وإن كانت كلها ضعيفة ، إلا أن أكثر العلماء يشترط لايجاب الحج الزاد والراحلة لمن نأت داره فمن لم يجد زادا ولا راحلة فلا حج عليه . قال ابن تيمية : فهذه الاحاديث – مسندة من طرق حسان ، ومرسلة ، وموقوفة – تدل على أن مناط الوجوب الزاد والراحلة ، مع علم النبي صلى الله عليه وسلم أن كثيرا من الناس يقدرون على المشي . وأيضا فإن الله قال : في الج : ” من استطاع إليه سبيلا ” إما أن يعني القدرة المعتبرز في جميع العبادات – وهو مطلق المكنة – أو قدرا زائدا على ذلك ، فإن كان المعتبر الاول لم تحتج إلى هذا التقييد ، كما لم يحتج إليه في آية الصوم والصلاة فعلم أن المعتبر قدر زائدا على ذلك ، وليس هو إلا المال .
( 1 ) أي ما معنى ” السبيل ” المذكور في الاية .
وأيضا فإن الحج عبادة مفتقرة إلى مسفاة فافتقر وجوبها إلى ملك الزاد والراحلة ، كالجهاد . ودليل الاصل ( 1 ) قوله تعالى : ( ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج ) إلى قوله : ( ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم ، قلت لا أجد ما أحملكم عليه ) . وفي المهذب : وإن وجد ما يشتري به الزاد والراحلة وهو محتاج إليه لدين عليه ، لم يلزمه ، حالا كان الدين ومؤجلا ، لان الدين الحال على الفور ، والحج على التراخي ، فقدم عليه ، والمؤجل يحل عليه ، فإذا صرف ما معه في الحج لم يجد ما يقضي به الدين . قال : وإن احتاج إليه لمسكن لا بد من مثله ، أو خادك يحتاج إلى خدمته . لم يلزمه . وإن احتاج إلى النكاح – وهو يخاج العنت – قدم النكاح ، لان الحاجة إلى ذلك على الفور . وإن احتاج إليه في بضاعة يتجر فيها ، ليحصل منها ما يحتاج إليه للنفقة ، فقد قال أبو العباس ، ابن صريح : لا يلزمه الحج ، لانه محتاج إليه ، فهو كالمسكن والخادم . وفي المغني : إن كان دين على ملئ باذل له يكفيه للحج لزمه ، لانه قادر ، وإن كان على معسر ، أو تعذر استيفاؤه عليه لم يلزمه . وعند الشافعية : أنه إذا بذل رجل لاخر راحلة من غير عوض لم يلزمه قبولها ، لان عليه في قبول ذلك منة ، وفي تحمل المنة مشقة ، إلا إذا بذل له ولده ما يتمكن به من الحج لزمه ، لانه أمكنه الحج من غيره منة تلزمه . وقالت الحنابلة : لا يلزمه الحج ببذل غيره له ، ولا يصير مستطيعا بذلك ، سواء كان الباذل قريبا أو أجنبيا . وسواء بذل له الركوب والزاد ، أو بذل له مالا .
5 – أن لا يوجد ما يمنع الناس من الذهاب إلى الحج كالحبس والخوف من سلطان جائر يمنع الناس منه .
( 1 ) ” الاصل ” أي الجهاد المقيس عليه ، فإنه أصل يقاس عليه الفرع . وهو الحج .
حج الصبي والعبد لا يجب عليهما الحج ، لكنهما إذا حجا صح منهما ، ولا يجزئهما عن حجة الاسلام : قال ابن عباس رضي الله عنهما ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ” أيما صبى حج ثم بلغ الحنث ( 1 ) فعليه أن يحج حجة أخرى . أيما عبد حج ثم أعتق ، فعليه أن يحج حجة أخرى ” رواه الطبراني بسند صحيح . وقال السائب بن يزيد : حج أبي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ، وأنا ابن سبع سنين . رواه أحمد والبخاري ، والترمذي ، وقال : قد أجمع أهل العلم : على أن الصبي إذا حج قبل أن يدرك فعليه الحج إذا أدرك ، وكذلك المملوك إذا حج في رقه ثم أعتق فعليه الحج إذا وجد إلى ذلك سبيلا . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أن امرأة رفعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيا . فقالت : ألهذا حج ؟ قال : ” نعم ( 2 ) ولك أجرا ( 3 ) ” . وعن جابر رضي الله عنه : قال : حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا النساء والصبيان ، فلبينا عن الصبيان ، ورمينا عنهم . رواه أحمد ، وابن ماجه . ثم إن كان الصبي مميزا أحرم بنفسه وأدى مناسك الحج ، وإلا أحرم عنه وليه ( 4 ) ولبى عنه وطاف به وسعى ، ووقف بعرفة ، ورمى عنه . ولو بلغ قبل الوقوف بعرفة ، أو فيها : أجزأ عن حجة الاسلام ، كذلك العبد إذا أعتق .
( 1 ) الحنث : الاثم ، أي بلغ أن يكتب عليه إثمه . ( 2 ) أكثر أهل العلم على أن الصبي يثاب على طاعته وتكتب له حسناته دون سيئاته ، وهو مروي عن عمر . ( 3 ) أي فيما تتكلفين من أمره بالحج ، وتعليمه إياه . ( 4 ) قال النووي : الولي الذي يحرم عنه إذا كان غير مميز هو ولي ماله وهو أبوه أو جده أو الوصي من جهة الحاكم . اما الام فلا يصح احرامها الا إذا كانت وصيز أو منصوبة من جهة الحاكم . وقيل : يصح إحرامها وإحرام الوصية وإن لم يكن لهما ولاية .
وقال مالك ، وابن المنذر : لايجزئهما ، لان الاحرام العقد تطوعا ، فلا ينقلب فرضا . حج المرأة يجب على المرأة الحج ، كما يجب على الرجل ، سواء بسواء ، إذا استوفت شرائط الوجوب التي تقدم ذكرها ، ويزاد عليها بالنسبة للمرأة أن يصحبها زوج أو محرم ( 1 ) . فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ” لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم ، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم فقام رجل ، فقال : يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة ، وإني اكتتبت في غزوة وكذا وكذا فقال : ” انطلق فحج ( 2 ) مع امرأتك ” رواه البخاري ومسلم ، واللفظ لمسلم . وعن يحيى بن عباد قال : كتبت امرأة من أهل الري إلى إبراهيم النخعي : إني لم أحج حجة الاسلام ، وأنا موسرة ، ليس لي ذو محرم ، فكتب إليها : ” إنك ممن لم يجعل الله له سبيلا ” . وإلى اشتراط هذا الشرط ، وجعله من جملة الاستطاعة ، ذهب أبو حنيفة وأصحابه ، والنخعي ، والحسن ، والثوري ، وأحمد ، وإسحق . قال الحافظ : والمشهور عند الشافعية اشتراط الزوج أو المحرم أو النسوة الثقات ، وفي قول : تكفي امرأة واحدة ثقة ، وفي قول – نقله الكرابيسي وصححه في المهذب – تسافر وحدها ، إذا كان الطريق آمنا . وهذا كله في الواجب من حج أو عمرة .
( 1 ) قال الحافظ في الفتح : وضابط المحرم عند العلماء : من حرم عليه نكاحها على التأبيد بسبب مباح لحرمتها ، فخرج بالتأبيد : أخت الزوجة وعمتها ، وبالمباح : أم الموطوءة بشبهة وبنتها ، وبحرمتها : الملاعنة . ( 2 ) هذا الامر للندب ، فإنه لا يلزم الزوج أو المحرم السفر مع المرأة ، إذا لم يوجد غيره ، لما في الحج من المشقة ، ولانه لا يجب على أحد بذل منافع نفسه ، ليحصل غيره ما يجب عليه .
وفي ” سبل السلام ” : قال جماعة من الائمة : يجوز للعجوز السفر من غير محرم . وقد استدل المجيزون لسفر المرأة من غير محرم ولازوج – إذا وجدت رفقة مأمونة ، أو كان الطريق آمنا – بماروه البخاري عن عدي بن حاتم قال : ” بينا أنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة ، ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل ، فقال : ” يا عدي هل رأيت الحيرة ( 1 ) ” قال : قلت : لم أرها ، وقد أنبئت عنها . قال : ” فإن طالت بك حياة لترين الظعينة ( 2 ) ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة ، لا تخاف إلا الله ” . واستدلوا أيضا بأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم حججن بعد أن أذن لهن عمر في آخر حجة حجها ، وبعث معهن عثمان بن عفان ، وعبد الرحمن ابن عوف . وكان عثمان ينادي : ألا لا يدنو أحد منهن ، ولا ينظر إليهن ، وهن في الهوادج على الابل . وإذا خالفت المرأة وحجت ، دون أن يكون معها زوج أو محرم ، صح حجها . وفي سبل السلام قال ابن تيمية : إنه يصح الحج من المرأة بغير محرم ، ومن غير المستطيع . وحاصله : أن من لم يجب عليه الحج لعدم الاستطاعة ، مثل المريض ، والفقير ، والمعضوب ، والمقطوع طريقه ، والمرأة بغير محرم ، وغير ذلك ، إذا تكلفوا شهود المشاهد ، أجزأهم الحج . ثم منهم من هو محسن في ذلك ، كالذي يحج ماشيا ، ومنهم من هو مسئ في ذلك ، كالذي يحج بالمسألة ، والمرأة تحج بغير محرم . وإنما أجزأهم ، لان الاهلية تامة ، والمعصية إن وقعت ، في الطريق ، لا في نفس المقصود .
( 1 ) ” الحيرة ” قرية قريبة من الكوفة . ( 2 ) ” الظعينة ” أي الهودج فيه امرأة أم لا – اه . قاموس .
وفي المغني : لو تجشم غير المستطيع المشقة ، سار بغير زاد وراحلة فحج ، كان حجه صحيحا مجزئا . استئذان المرأة زوجها : يستحب للمرأة أن تستأذن زوجها في الخروج إلى الحج الفرض ، فإن أذن لها خرجت ، وإن لم يأذن لها خرجت بغير إذنه ، لانه ليس للرجل منع امرأته من حج الفريضة ، لانها عبادة وجبت عليها ، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ولها أن تعجل به لتبرئ ذمتها ، كمالها أن تصلي أول الوقت ، وليس له منعها ، ويليق به الحج المنذور ، لانه واجب عليه كحجة الاسلام . وأما حج التطوع فله منعها منه . لما رواه الدارقطني عن ابن عمر رضي الله عنهما ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم – في امرأة كان لها زوج ولها مال ، فلا يأذن لها في الحج – قال : ” ليس لها أن تنطلق إلا بإذن زوجها ” .
من مات وعليه حج من مات وعليه حجة الاسلام ، أو حجة كان قد نذرها وجب على وليه أن يجهز من يحج عنه من ماله ، كما أن عليه قضاء ديونه . فعن ابن عباس رضي الله عنهما ان امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : ان أمي نذرت أن تحج ولم تحج حتى ماتت ، أفأحج عنها ؟ قال : ” نعم ، حجي عنها . أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته ؟ اقضوا الله ، فالله أحق بالوفاء ” رواه البخاري . وفي الحديث دليل على وجوب الحج عن الميت ، سواء أوصى أم لم يوص ، لان الدين يجب قضاؤه مطلقا ، وكذا سائر الحقوق المالية من كفارة ، أو زكاة ، أو نذر . وإلى هذا ذهب ابن عباس ، وزيد بن ثابت ، وأبو هريرة ، والشافعي ، ويجب إخراج الاجرة من رأس المال عندهم . وظاهر أنه يقدم على دين الآدمي إذا كانت التركة لا تتسع للحج والدين ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ” فالله أحق بالوفاء ” . وقال مالك : إنما يحج عنه إذا أوصى . أما إذا لم يوص فلا يحج عنه ، لان الحج عبادة غلب فيه جانب البدنية ، فلا يقبل النيابة . وإذا أوصى حج من الثلث . لحج عن الغير من استطاع السبيل إلى الحج ثم عجز عنه ، بمرض أو شيخوخة ، لزمه إحجاج غيره عنه ، لانه أيس من الحج بنفسه لعجزه ، فصار كالميت فينوب عنه غيره . ولحديث الفضل بن عباس : أن امرأة من خثعم قالت : يا رسول الله ، إن فريضة الله على عباده في الحج ، أدركت أبي شيخا كبيرا لايستطيع أن يثبت على الراحلة ، أفأحج عنه ؟ قال : ” نعم ” وذلك في حجة الوداع : رواه الجماعة ، وقال الترمذي : حسن صحيح . وقال الترمذي أيضا : وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب غير حديث ، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم ، يرون أن يحج عن الميت . وبه يقول الثوري ، وابن المبارك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحق . وقال مالك : إذا أوصى أن يحج عنه ، حج عنه . وقد رخص بعضهم أن يحج عن الحي إذا كان كبيرا وبحال لا يقدر أن يحج ، وهو قول ابن المبارك والشافعي . ( 1 ) وفي الحديث دليل على أن المرأة يجوز لها أن تحج عن الرجل والمرأة ، والرجل يجوز له أن يحج عن الرجل والمرأة ، ولم يأت نص يخالف ذلك . إذا عوفي المعضوب ( 2 ) إذا عوفي المريض بعد أن حج عنه نائبه فإنهيسقط الفرض عنه ولا تلزمه
( 1 ) وهذا قول أحمد والاحناف . ( 1 ) ” المعضوب ” الزمن الذي لاحراك له .
الاعادة ، لئلا تقضي إلى إيجاب حجتين ، وهذا مذهب أحمد . وقال الجمهور : لايجزئه ، لانه تبين أنه لم يكن ميئوسا منه ، وأن العبرة بالانتهاء . ورجح ابن حزم الرأي الاول ، فقال : إذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالحج عمن لايستطيع الحج ، راكبا ، ولا ماشيا ، وأخبر أن دين الله يقضى عنه ، فقد تأدى الدين بلاشك وأجزأ عنه . وبلا شك إن ما سقط وتأدى فلا يجوز أن يعود فرضه بذلك إلا بنص . ولا نص ههنا أصلا بعودته . ولو كان ذلك عائدا لبين عليه الصلاة والسلام ذلك . إذ قد يقوى الشيخ فيطيق الركوب . فإذا لم يخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فلا يجوز عودة الفرض عليه بعد صحة تأديته عنه .
شرط الحج عن الغير يشترط فيمن يحج عن غيره ، أن يكون قد سبق له الحج عن نفسه . لما رواه ابن عباس رضي الله عنهما : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول : لبيك عن شبرمة ، فقال : أحججت عن نفسك ؟ قال : لا . قال : ” فحج عن نفسك ، ثم حج عن شبرمة ” رواه أبو داود ، وابن ماجه . قال البيهقي : هذا إسناد صحيح ليس في الباب أصح منه . قال ابن تيمية : إن أحمد حكم – في رواية ابنه صالح عنه – أنه مرفوع على أنه وإن كان موقوفا فليس لابن عباس فيه مخالف . وهذا قول أكثر أهل العلم : أنه لا يصح أن يحج عن غيره من لم يحج عن نفسه مطلقا ، مستطيعا كان أولا ، لان ترك الاستفصال ، والتفريق في حكاية الاحوال ، دال على العموم من حج لنذر وعليه حجة الاسلام أفتى ابن عباس وعكرمة ، بأن من حج لوفاء نذر عليه ولم يكن حج حجة الاسلام أنه يجزئ عنهما . وأفتى ابن عمر ، وعطاء : بأنه يبدأ بفريضة الحج ، ثم يفي بنذره . لاصرورة في الاسلام عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” لاصرورة في الاسلام ” رواه أحمد وأبو داود . قال الخطابي : الصرورة تفسير تفسيرين . ( أحدهما ) أن الصرورة ، هو الرجل الذي قد انقطع عن النكاح وتبتل ، على مذهب رهبانية النصارى ، ومنه قول النابغة : لو أنها عرضت الاشمط راهب – عبد الاله صرورة متعبد أدنا لبهجتها وحسن حديثها – ولخالها رشدا وإن لم يرشد ( والوجه الآخر ) أن الصرورة هو الرجل الذي لم يحج . فمعناه على هذا : أن سنة الدين أن لا يبقى أحد من الناس يستطيع الحج فلا يحج ، فلا يكون صرورة في الاسلام . وقد يستدل به من يزعم أن الصرورة لا يجوز له أن يحج عن غيره . وتقدير الكلام عنده أن الصرورة إذا شرع في الحج عن غيره صار الحج عنه ، وانقلب عن فرضه ليحصل معنى النفي ، فلا يكون صرورة . وهذا مذهب الاوزاعي ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق . وقال مالك والثوري : حجه على مانواه . وإليه ذهب أصحاب الرأي . وقد روي ذلك عن الحسن البصري ، وعطاء ، والنخعي .
الاقتراض للحج عن عبد الله بن أبي أوفى قال : سألت رسول الله صلى اللهعليه وسلم عن الرجل لم يحج ، أو يستقرض للحج ؟ قال : ” لا ” ، رواه البيهقي .
الحج من مال حرام ويجزئ الحج وإن كان المال حراما ويأثم عند الاكثر من العلماء . وقال الامام أحمد : لايجزئ ، وهو الاصح لما جاء في الحديث الصحيح : ” إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ” . وروى عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” إذا خرج الحاج حاجا بنفقة طيبة ( 1 ) ، ووضع رجله في الغرز ( 2 ) فنادى : لبيك اللهم ناداه مناد من السماء : لبيك وسعديك ( 3 ) زادك حلال ، وراحلتك حلال وحجك مبرور غير مأزور ( 4 ) وإذاخرج بالنفقة الخبيثة فوضع رجله في الغرز ، فنادى : لبيك ، ناداه مناد من السماء : لالبيك ولاسعد يك ، زادك حرام ، ونفقتك حرام ، وحجك مأزور غير مأجور ” . قال المنذري : رواه الطبراني في الاوسط ، ورواه الاصبهاني من حديث أسلم مولى عمر بن الخطاب مرسلا مختصرا .
أيهما أفضل في الحج : الركوب أم المشي ؟ قال الحافظ في الفتح : قال ابن المنذر : اختلف في الركوب والمشي للحجاج أيهما أفضل ؟ قال الجمهور : الركوب أفضل ، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكونه أعون على الدعاء والابتهال ، ولما فيه من المنفعة . وقال إسحق بن راهويه : المشي أفضل لما فيه من التعب . ويحتمل أن يقال : يختلف باختلاف الاحوال والاشخاص . روى البخاري عن أنس رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى شيخا يهادى ( 5 ) بين ابنيه فقال : ” ما بال هذا ؟ قالوا : نذر أن يمشي ، قال :
( 1 ) طيبة : حلال . ( 2 ) الغرز . ركاب من جلد يعتمد عليه الراكب حين يركب . ( 3 ) لبيك : أجاب الله حجك إجابة بعد إجابة . ( 4 ) مبرور : مقبول ، لا يخالطه وزر . مأزور : جالب للوزر والاثم . ( 5 ) يهادى : يعتمد عليهما في المشي
إن الله عزوجل عن تعذيب هذا نفسه لغني ، وأمره أن يركب ” .
التكسب والمكاري في الحج لا بأس للحاج أن يتاجر ، ويؤاجر ويتكسب ، وهو يؤدي أعمال الحج والعمرة . قال ابن عباس : إن الناس في أول الحج ( 1 ) كانوا يتبايعون بمنى وعرفة ، وسوق ذي المجاز ( 2 ) ومواسم الحج ، فخافوا البيع وهم حرم . فأنزل الله تعالى : ( ليس عليكم جناح ( 3 ) أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج ) رواه البخاري ، ومسلم ، والنسائي . وعن ابن عباس أيضا ، في قوله تعالى : ( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ) قال : كانوا لا يتجرون بمنى فأمروا أن يتجروا إذا أفاضوا من ” عرفات ” رواه أبو داود : وعن أبي أمامة التيمي : أنه قال لا بن عمر : إني رجل أكري ( 4 ) في هذا الوجه وإن ناسا يقولون لي : أنه ليس لك حج فقال ابن عمر : أليس تحرم وتلبي ، وتطوف بالبيت ، وتفيض من عرفات ، وترمي الجار ، قال : قلت : بلى ، قال : فإن لك حجا ، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن مثل ما سألتني ، فسكت عنه حتى نزلت هذه الآية : ( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ) ، فأرسل إليه وقرأ عليه هذه الآية ، وقال : ” لك حج ” رواه أبو داود ، وسعيد بن منصور . وقال الحافظ المنذري أبو أمامة لايعرف اسمه . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أن رجلا سأله فقال : أؤجر نفسي من هؤلاء القوم فأنسك معهم المناسك ، ألي أجر ؟ قال ابن عباس : نعم
( 1 ) أي في الاسلام . ( 2 ) ” ذو المجاز ” موضع بجوار عرفة . ( 3 ) أي لا إثم عليكم ، وإن تبتغوا فضلا من ربكم مع سفركم لتأدية ما افترضه الله عليكم من الحج ، فالاذن في التجارة رخصة ، والافضل تركها . ( 4 ) ” أكري ” أي أؤجر الرواحل للركوب
أولئك لهم نصيب مما كسبوا ، والله سريع الحساب ” . رواه البيهقي ، والدراقطني . حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم روى مسلم قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، وإسحق بن إبراهيم جميعا ، وعن حاتم ، قال أبو بكر : حدثنا حاتم بن إسمعيل المدني ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، قال : ” دخلنا على جابر بن عبد الله رضي الله عنه فسأل عن القوم حتى انتهى إلي ؟ فقلت : أنا محمد بن علي بن حسين ، فأهوى بيده إلى رأسي ، فنزع زري الاعلى ، ثم نزع زري الاسفل ، ثم وضع كفه بين ثديي ، وأنا يومئذ غلام شاب ، فقال : مرحبا بك يا بن أخي ، سل عما شئت ؟ فسألته – وهو أعمى – وحضر وقت الصلاة ، فقام في نساجة ملتحفا بها ( 1 ) ، كلما وضعها على منكبه رجع طرفاها إليه من صغرها ، ورداؤه إلى جنبه على المشجب ( 2 ) . فصلى بنا ، فقلت : أخبرني عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال بيده : فعقد تسعا . فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تسع ( 3 ) سنين لم يحج ، ثم أذن في الناس في العاشرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاج فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويعمل مثل عمله . فخرجنا معه حتى أتينا ذا الخليفة : فولدت ” أسماء ” بنت عميس محمد بن أبي بكر ، فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف أصنع ، قال : ” اغتسلي واستثفري ( 4 ) بثوب وأحرمي ” . فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ثم ركب ” القصواء ” ( 5 )
( 1 ) نساجة : ثوب كالطيلسان . ( 2 ) مشجب : اسم لاعواد يوضع عليها الثياب ومتاع البدن ” الشماعة ” . ( 3 ) ” مكث تسع سنين ” . أي بالمدينة . ( 4 ) ” الاستثفار ” . أن تشد في وسطها شيئا ، وتأخذ خرقة عريضة تجعلها على محل الدم وتشد طرفيها من قدامها ومن ورائها في ذلك الشدود في وسطها لمنع سيلان الدم . ( 5 ) ” القصواء ” اسم لناقة النبي صلى الله عليه وسلم .
حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماش ، وعن يمينه مثل ذلك ، وعن يساره مثل ذلك ، ومن خلفه مثل ذلك ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا ، وعليه ينزل القرآن ، وهو يعرف تأويله ، وما عمل به من شئ عملنا به . فأهل ( 1 ) بالتوحيد : ” لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك ” وأهل الناس بهذا الذي يهلون به ، فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم شيئا منه ، ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته . قال جابر رضي الله عنه : لسنا ننوي إلا الحج : لسنا نعرف العمرة ، حتى إذا أتينا البيت معه ، استلم الركن ، فرمل ثلاثا ، ومشى أربعا ، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام ، فقرأ ” واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ” . فجعل المقام بينه وبين البيت . فكان يقرأ في الركعتين ” قل هو الله أحد ” و ” قل يأيها الكافرون ” ثم رجع إلى الركن فاستلمه ، ثم خرج من الباب إلى الصفا . فلما دنا من الصفا قرأ : ” إن الصفا والمروة من شعائر الله ” أبدأ بما بدأ الله به ، فبدأ بالصفا ، فرقي عليه حتى رأى البيت ، فاستقبل القبلة ، فوحد الله وكبره وقال : ” لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شئ قدير ، لا إله إلا الله وحده ، أنجز وعده ، ونصر عبده ، وهزم الاحزاب وحده ( 2 ) ، ” ، ثم دعا بين ذلك ، قال مثل هذا ثلاث مرات ، ثم نزل إلى المروة ، حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي ، سعى حتى إذا صعدنا مشى ، حتى أتى المروة ، ففعل على المروة كما فعل على الصفا . حتى إذا كان آخر طوافه على المروة ، فقال . ” لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ، وجعلتها عمرة ، فمن كان منكم ليس معه
( 1 ) ” أهل ” من الاهلال : وهو رفع الصوت بالتلبية . ( 2 ) هزم الاحزاب وحده : معناه : هزمهم بغير قتال من الآدميين ولا بسبب من جهتهم . والمراد بالاحزاب : الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق هدي فليحل ، وليجعلها عمرة ” . فقام سراقة بن مالك بن جعثم ، فقال : يا رسول الله ألعامنا هذا أم لابد ؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه ، واحدة في الاخرى ، وقال : ” دخلت العمرة في الحج مرتين ، لابل لابد أبد ” . وقدم علي من اليمن ببدن للنبي صلى الله عليه وسلم ، فوجد فاطمة رضي الله عنها ممن حل ، ولبست ثيابا صبيغا ، واكتحلت ، فأنكر ذلك عليها ، فقالت : إن أبي أمرني بهذا . قال : فكان علي يقول بالعراق : فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم محرشا ( 1 ) على فاطمة للذي صنعت ، مستفتيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكرت عنه ، فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها ، فقال : ” صدقت صدقت ، ماذا قلت حين فرضت الحج ؟ . ” قال : قلت : ” اللهم إني أهل بما أهل به رسولك ” . قال : ” فإن معي الهدي فلانحل . ” قال : فكان جماعة الهدي الذي قدم به علي من اليمن ؟ والذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم ، مائة . قال : فحل الناس كلهم وقصروا ، إلا النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن كان معه هدي . فلما كان يوم التروية ( 2 ) ، توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج ، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فصلى بها الظهر والعصر ، والمغرب ، والعشاء ، والفجر . ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس ، وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة . فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا تشك قريش ألا أنه واقف
( 1 ) ” التحريش ” الاغراء . والمراد هنا أن يذكر له ما يقضي عتابها . ( 2 ) ” يوم التروية ” هو اليوم الثامن من ذي الحجة
عند المشعر الحرام ، كما كانت قريش تصنع في الجاهلية ( 1 ) . فأجاز ( 2 ) رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة ، فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس ، أمر بالقصواء فرحلت ( 3 ) له . فأتى بطن الوادي ( 4 ) فخطب الناس ، وقال : ” إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم ، كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا ، ألا كل شئ من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ، ودماء الجاهلية موضوعة ، وإن أول دم أضع من دمائنا ، دم ابن ربيعة بن الحارث – كان مسترضعا في بني سعد ، فقتلته هذيل – وربا الجاهلية موضوع ( 5 ) وأول ربا أضع ربانا ، ربا عباس بن عبد المطلب ، فإنه موضوع كله ، فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه ، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح ، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده ، إن اعتصمتم به : كتاب الله ، وأنتم تسألون عني ، فما أنتم قائلون ؟ قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت ، فقال : بإصبعه السبابة ( 6 ) يرفعها إلى السماء ينكتها إلى الناس ، اللهم اشهد ، اللهم فاشهد ثلاث مرات . تم أذن ، ثم أقام فصلى الظهر ، ثم أقام فصلى العصر ، ولم يصل بينهما
( 1 ) كانت قريش في الجاهلية تقف بالمشعر الحرام ، وهو جبل بالمزدلفة يقال له فرح . وقيل : إن المشعر الحرام كل المزدلفة ، وكان سائر العرب يتجاوزون المزدلفة ويقفون بعرفات ، فظنت قريش أن النبي صلى الله عليه وسلم يقف في المشعر الحرام على عادتهم ولا يتجاوزه . فتجاوزه النبي صلى الله عليه وسلم إلى عرفات ، لان الله تعالى أمره بذلك في قوله تعالى : ” ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ” أي سائر الناس العرب ، غير قريش وإنما كانت قريش تقف بالمزدلفة لانها من الحرم ، وكانوا يقولون : نحن أهل حرم الله ، فلا نخرج منه . ( 2 ) فأجاز : أي جاوز المزدلفة ولم يقف بها ، بل توجه إلى عرفات . ( 3 ) ” فرحلت ” أي جعل عليها الرحل . ( 4 ) ” بطن الوادي ” هو وادي عرفة . ( 5 ) ” موضوع ” أي باطل . ( 6 ) ” فقال بإصبعه السبابة ” أي يقلبها و يرددها إلى الناس مشيرا إليهم .
شيئا ( 1 ) ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات ، وجعل جبل المشاة ( 2 ) بين يديه واستقبل القبلة . فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس ، وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص ، وأردف أسامة خلفه . ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد شنق ( 3 ) للقصواء الزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك رجله ( 4 ) ويقول بيده اليمنى ( 5 ) : ” أيها الناس ، السكينة السكينة ” كلما أتى جبلا من الجبال أرخى لها قليلا حتى تصعد ، حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ، ولم يسبح بينهما شيئا . ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر وصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة .
ثم ركب القصواء ، حتى أتى الشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله ووحده ، فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا . فدفع قبل أن تطلع الشمس ، وأردف الفضل بن عباس وكان رجلا حسن الشعر أبيض وسيما ( 6 ) فلما دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم مرت به ظعن ( 7 ) يجرين فطفق الفضل ينظر إليهن ، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على وجه الفضل فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر ، فحول رسول الله صلى الله عليه وسلم يده من الشق الآخر على وجه الفضل ، يصرف وجهه من الشق الآخر ينظر ، حتى أتى بطن محسر . فحرك قليلا ، ثم سلك الطريق
( 1 ) ” فصلى الظهر ثم قام فصلى العصر ولم يصل بينهما الخ ” : فيه دليل على أنه يشرع الجمع بين الظهر والعصر هناك في ذلك اليوم ، وقد أجمعت الامة عليه ، واختلفوا في سببه : فقيل : بسبب النسك وهو مذهب أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي ، وقال أكثر أصحاب الشافعي : هو بسبب السفر . ( 2 ) ” جبل المشاة ” أي مجتمعهم . ( 3 ) ” شنق ” أي ضم وضيق . ( 4 ) ” المورك ” الموضع الذي يثني الراكب رجله عليه . قدام واسطة الرحل ، إذا مل من الركوب . ( 5 ) ” يقول بيده ” أي يشير بها قائلا : الزموا السكينة . وهي الرفق والطمأنينة . ( 6 ) ” وسيما ” أي جميلا . ( 7 ) ” الظعن ” جمع ظعينة – وهي البعير الذي عليه امرأة ، ثم سميت به المرأة مجازا لملابسها البعير
الوسطى ( 1 ) التي تخرج على الجمرة الكبرى ، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الحذف ، رمى من بطن الوادي ( 2 ) . ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثا وستين بيده ثم أعطى عليا فنحر ما غبر ( 3 ) وأشركه في هديه ، ثم أمر من كل بدنة ببضعة ( 4 ) فجعلت في قدر ، فطبخت فأكلا من لحمها وشربا من مرقها . ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأفاض إلى البيت ( 5 ) فصلى بمكة الظهر . فأتى بني عبد الملك يسقون على زمزم ، فقال : ” انزعوا ( 6 ) بني عبد المطلب ، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم ( 7 ) لنزعت معكم ” . فناولوه دلوا فشرب منه . قال العلماء : واعلم أن هذا حديث عظيم مشتمل على جمل من الفوائد ، ونفائس من مهمات القواعد ، قال القاضي عياض : قد تكلم الناس على ما فيه من الفقه . وأكثروا ، وصنف فيه أبو بكر بن المنذر جزءا كبيرا أخرج فيه من الفقه مائة ونيفا وخمسين نوعا . قال : ولو تقصى لزيد على هذا العدد قريب منه . قالوا : وفيه دلالة على أن غسل الاحرام سنة للنفساء والحائض ولغيزهما
( 1 ) قوله ” ثم سلك الطريق الوسطى ” فيه دليل على أن سلوك هذا الطريق في الرجوع من عرفات سنة . وهو غير الطريق الذي ذهب به إلى عرفات . وكان قد ذهب إلى عرفات من طريق ” ضب ” ليخالف الطريق كما كان يعمل في الخروج إلى العيدين في مخالفته طريق الذهاب والاياب . ( 2 ) قوله : ” رمى من بطن الوادي ” أي بحيث تكون ” منى ” و ” عرفات ” و ” المزدلفة ” عن يمينه و ” مكة ” عن يساره . ( 3 ) قوله : ” فنحر ثلاثا وستين الخ ” فيه دليل على استحباب تكثير الهدي وكان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في تلك السنة مائة بدنة و ” غبر ” أي بقي . ( 4 ) البضعة : أي القطعة من اللحم . ( 5 ) ” فأفاض إلى البيت ” أي طاف بالبيت طواف الافاضة ، ثم صلى الظهر . ( 6 ) ” انزعوا ” أي استقوا بالدلاء وانزعوها بالرشاء ( الحبال ) . ( 7 ) ” فلولا أن يغلبكم الناس على الخ . معناه لولا خوفي أن يعتقد الناس ذلك من مناسك الحج ويزدحمون عليه بحيث يغلبونكم ويدفعونكم عن الاستقاء لاستقيت معكم لكثرة فضيلة هذا الاستقاء
بالاولى . على استثفار الحائض والنفساء وعلى صحة إحرامهما ، وأن يكون الاحرام عقب صلاة فرض أو نفل ، وأن يرفع المحرم صوته بالتلبية ، ويستحب الاقتصار على تلبية النبي صلى الله عليه وسلم . فإذا زاد فلا بأس ، فقد زاد عمر : لبيك ذا النعماء والفضل الحسن ، لبيك مرهوبا منك ومرغوبا إليك .
وأنه ينبغي للحاج القدوم أولا إلى مكة ليطوف طواف القدوم وأن يستلم الركن – الحجر الاسود – قبل طوافه ويرمل في الثلاثة الاشواط الاولى ، والرمل أسرع المشي مع تقارب الخطا وهو الخبب ، وهذا الرمل يفعله ما عدا الركنين اليمانيين . ثم يمشي أربعا على عادته وأنه يأتي بعد تمام طوافه مقام إبراهيم ويتلو ” واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ” . ثم يجعل المقام بينه وبين البيت ويصلي ركعتين . ويقرأ فيهما في الاولى – بعد الفاتحة – سورة ” الكافرون ” وفي الثانية – بعد الفاتحة – سورة ” الاخلاص ” . ودل الحديث أنه يشرع له الاستلام عند الخروج من المسجد كما فعله عند الدخول . واتفق العلماء : على أن الاستلام سنة .
وأنه يسعى بعد الطواف ويبدأ من الصفا ويرقى إلى أعلاه ويقف عليه مستقبل القبلة ويذكر الله تعالى بهذا الذكر ويدعو ثلاث مرات ويرمل في بطن الوادي وهو الذي يقال له ” بين الميلين ” وهو – أي الرمل – مشروع في كل مرة من السبعة الاشواط لا في الثلاثة الاول كما في طواف القدوم بالبيت ، وأنه يرقى أيضا على المروة كما رقي على الصفا ويذكر ويدعو . وبتمام ذلك تتم عمرته . فإن حلق أو قصر صار حلالا . وهكذا فعل الصحابة الذين أمرهم صلى الله عليه وسلم بفسخ الحج إلى العمرة .
وأما من كان قارنا ، فإنه لا يحلق ولا يقصر ، ويبقى على إحرامه ثم في يوم التروية – وهو الثامن من ذي الحجة – يحرم من أراد الحج ممن حل من عمرته ويذهب هو ومن كان قارنا إلى منى ، والسنة أن يصلي بمنى الصلوات الخمس ، وأن يبيت بها هذه الليلة – وهي ليلة التاسع من ذي الحجة . ومن السنة كذلك أن لا يخرج يوم عرفة من منى إلا بعد طلوع الشمس ، ولا يدخل ” عرفات ” إلا بعد زوال الشمس . وبعد صلاة الظهر والعصر جميعا ب ” عرفات ” فإنه صلى الله عليه وسلم نزل بنمرة وليست من عرفات . ولم يدخل صلى الله عليه وسلم الموقف إلا بعد الصلاتين . ومن السنة أن يصلي بينهما شيئا ، وأن يخطب الامام الناس قبل الصلاة ، وهذه إحدى الخطب المسنونة في الحج . والثانية – أي من الخطب المسنونة – يوم السابع من ذي الحجة يخطب عند الكعبة بعد صلاة الظهر . والثالثة – أي من الخطب المسنونة – يوم النحر . والرابعة – يوم النفر الاول .
وفي الحديث سنن وآداب منها : أن يجعل الذهاب إلى الموقف عند فراغه من الصلاتين . وأن يقف – في عرفات – راكبا أفضل . وأن يقف عند الصخرات ، عند موقف النبي صلى الله عليه وسلم ، أو قريبا منه . وأن يقف مستقبل القبلة . وأن يبقي في الموقف حتى تغرب الشمس . ويكون في وقوفه داعيا لله عزوجل ، رافعا يديه إلى صدره ، وأن يدفع بعد تحقق غروب الشمس بالسكينة ، ويأمر الناس بها إن كان مطاعا . فإذا أتى المزدلفة نزل وصلى المغرب والعشاء جمعا بأذان واحد وإقامتين ، دون أن يتطوع بينهما شيئا من الصلوات . وهذا الجمع متفق عليه بين العلماء . وإنما اختلفوا في سببه . فقيل : أنه نسك ، وقيل : لانهم مسافرون ، أي السفر هو العلة لمشروعية الجمع .
ومن السنن : المبيت بمزدلفة ، وهو مجمع على أنه نسك وإنما اختلفوا في كونه – أي المبيت – واجبا أو سنة . ومن السنة ، أن يصلي الصبح في المزدلفة ثم يدفع عنها بعد ذلك . فيأتي المشعر الحرام فيقف به ، ويدعو . والوقوف عنده من المناسك : ثم يدفع منه عند إسفار الفجر إسفارا بليغا ، فيأتي بطن محسر فيسرع السير فيه ، لانه محل غضب الله فيه على أصحاب الفيل . فلاينبغي الاناة فيه . ولا البقاء فيه . فإذا أتى الجمرة – وهي جمرة العقبة – نزل ببطن الوادي رماها بسبع حصيات ، كل حصاة كحبة الباقلاء – أي الفول – يكبر مع كل حصاة . ثم ينصرف بعد ذلك إلى النحر فينحر – إن كان عنده هدى ثم يحلق بعد نحره . ثم يرجع إلى مكة فيطوف طواف الافاضة – وهو الذي يقال له طواف الزيارة . ومن بعده يحل له كل ما حرم عليه بالاحرام ، حتى وطء النساء . وأما إذا رمى جمرة العقبة . ولم يطف هذا الطواف فإنه يحل له كل شئ ماعد النساء . هذا هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجه والآتي به مقتد به ، صلى الله عليه وسلم ، وممتثل لقوله : ” خذوا عني مناسككم ” وحجه صحيح .
وإليك تفصيل هذه الاعمال وبيان آراء العلماء ، ومذهب كل منهم ، في كل عمل من أعمال الحج .
المواقيت المواقيت جمع ميقات . كمواعيد وميعاد ، وهي مواقيت زمانية ومواقيت مكانية . المواقيت الزمانية هي الاوقات التي لا يصح شئ من أعمال الحج إلا فيها ، وقد بينها الله تعالى في قوله : ( يسألونك عن الاهلة قل هي مواقيت للناس والحج ) وقال : ( الحج أشهر معلومات ) أي وقت أعمال الحج أشهر معلومات . والعلماء مجمعون : على أن المراد بأشهر الحج شوال ، وذو القعدة . واختلفوا في ذي الحجة . هل هو بكماله من أشهر الحج ، أو عشر منه ؟ فذهب ابن عمر ، وابن عباس ، وابن مسعود ، والاحناف والشافعي ، وأحمد ، إلى الثاني . وذهب مالك إلى الاول . ورجحه ابن حزم فقال : قال تعالى : ( الحج أشهر معلومات ) . ولا يطلق على شهرين ، وبعض آخر أشهر . وأيضا ، فإن رمي الجمار – وهومن أعمال الحج – يعمل يوم الثالث عشر من ذي الحجة ، وطواف الافاضة – وهو من فرائض الحج – يعمل في ذي الحجة كله بلا خلاف منهم ، فصح أنها ثلاثة أشهر . وثمرة الخلاف تظهر ، فيما وقع من أعمال الحج بعد النحر . فمن قال : إن ذا الحجة كله من الوقت ، قال لم يلزمه دم التأخير . ومن قال : ليس إلا العشر منه قال : يلزمه من التأخير . الاحرام بالحج قبل أشهره : ذهب ابن عباس ، وابن عمر ، وجابر ، والشافعي : إلى أنه لا يصح الاحرام بالحج إلا في أشهره ( 1 ) . قال البخاري : وقال ابن عمر رضي الله عنهما : أشهر الحج شوال ، وذو القعدة ، وعشر من ذي الحجة . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : من السنة ( 2 ) أن لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج . وروى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لا يصح أن يحرم أحد بالحج ، إلا في أشهر الحج .
( 1 ) وقالوا فيمن أحرم قبلها أحل بعمرة ولا يجزئه عن إحرام الحج . ( 2 ) قول الصحابي : من السنة كذا . يعطي حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
ويرى الاحناف ، ومالك ، وأحمد : أن الاحرام بالحج قبل أشهره يصح مع الكراهة . ورجح الشوكاني الرأي الاول ، فقال : إلا أنه يقوي المنع من الاحرام قبل أشهر الحج ، أن الله – سبحانه – ضرب لاعمال الحج أشهرأ معلومة . والاحرام عمل من أعمال الحج . فمن ادعى أنه يصح قبلها فعليه الدليل .
المواقيت المكانية المواقيت المكانية : هي الاماكن التي يحرم منها من يريد الحج أو العمرة . ولا يجوز لحاج أو معتمر أن يتجاوزها ، دون أن يحرم . وقد بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم : فجعل ميقات أهل المدينة ” ذا الحليفة ” ( موضع بينه وبين مكة 450 كيلومتر يقع في شمالها ) . ووقت ( 1 ) لاهل الشام ” الجحفة ” ( موضع في الشمال الغربي من مكة بينه وبينها 187 كيلومتر ، وهي قريبة من ” رابغ ” و ” رابغ ” بينها وبين ” مكة ” 204 كيلومتر : وقد صارت ” رابغ ” ميقات أهل مصر والشام ، ومن يمر عليها بعد ذهاب معالم ” جحفة ” ) . وميقات أهل نجد ” قرن المنازل ” ( جبل شرقي مكة يطل على عرفات ، بينه وبين مكة 94 كيلومتر ) . وميقات أهل اليمن ” يلملم ” ( جبل يقع جنوب مكة ، بينه وبينها 54 كيلومتر ) . وميقات أهل العراق ” ذات عرق ” ( موضع في الشمال الشرقي لمكة ، بينه وبينها 94 كيلومتر ) . وقد نظمها بعضهم فقال : وقد نظمها بعضهم فقال : عرق العراق يلملم اليمن – وبذي الحليفة يحرم المدني
( 1 ) ” وقت ” : أي حدد .
والشام جحفة إن مررت بها – ولاهل نجد قرن فاستبن هذه هي المواقيت التي عينها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي مواقيت لكل من مر بها ، سواء كان من أهل تلك الجهات أم كان من جهة أخرى ( 1 ) . وقد جاء في كلامه صلى الله عليه وسلم قوله : ” هن لهن ولمن أتى عليهن من غيرهن لمن أراد الحج أو العمرة ” . أي إن هذه المواقيت لاهل البلاد المذكورة ولمن مربها . وإن لم يكن من أهل تلك الآفاق المعينة فإنه يحرم منها إذا أتى مكة قاصدا النسك . ومن كان بمكة وأراد الحج ، فميقاته منازل مكة . وإن أراد العمرة ، فميقاته الخل ، فيخرج إليه ويحرم منه وأدنى ذلك ” التنعيم ” . ومن كان بين الميقات وبين مكة ، فميقاته من منزله . قال ابن حزم : ومن كان طريقه لاتمر بشئ من هذه المواقيت فليحرم من حيث شاء ، برا أو بحرا .
الاحرام قبل الميقات : قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن من أحرم قبل الميقات أنه محرم ، وهل يكره ؟ قيل : نعم ، لان قول الصحابة ” وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لاهل المدينة ذا الحليفة ” يقضي بالاهلال من هذه المواقيت ، ويقضي بنفي النقص والزيادة ، فإن لم تكن الزيادة محرمة ، فلا أقل من أن يكون تركها أفضل .
الاحرام تعريفه : هونية أحد النسكين : الحج ، أو العمرة ، أو نيتهما معا : وهو ركن ، ( 1 ) فإذا أراد الشامي الحج فدخل المدينة فميقاته ، ذو الحليفة ، لاجتيازه عليها ولا يؤخر حتى يأتي ” رابغ ” التي هي ميقاته الاصلي ، فإن أخرأساء ولزمه دم عند الجمهور .
لقول الله تعالى : ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ) وقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ” إنما الاعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ” . وقد سبق الكلام على حقيقة النية ( 1 ) وأن محلها القلب : قال الكمال ابن الهمام : ولم نعلم الرواة لنسكه صلى الله عليه وسلم . روى واحد منهم : أنه سمعه صلى الله عليه وسلم يقول : ” نويت العمرة ، أو نويت الحج ” . آدابه : للاحرام آداب ينبغي مراعاتها ، نذكرها فيما يلي :
( 1 ) النظافة : وتتحقق بتقليم الاظافر ، وقص الشارب ونتف الابط ، وحلق العانة ، والوضوء ، أو الاغتسال ، وهو أفضل ، وتسريح اللحية ، وشعر الرأس . قال ابن عمر رضي الله عنهما : من السنة أن يغتسل ( 2 ) إذا أراد الاحرام ، وإذا أراد دخول مكة . رواه البزار ، والدارقطني ، والحاكم ، وصححه . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” إن النفساء والحائض تغتسل ( 3 ) وتحرم ، وتقضي المناسك كلها ، غير أنها لا تطوف بالبيت حتى تطهر ” . رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي . وحسنه .
( 2 ) التجرد : من الثياب المخيطة ولبس ثوبي الاحرام ، وهما رداء يلف النصف الاعلى من البدن ، دون الرأس ، وإزار يلف به النصف الاسفل منه .
( 1 ) ” باب الوضوء ” من هذا الكتاب . ( 2 ) أي يغتسل بنية غسل الاحرام . ( 3 ) قال الخطابي : في أمره عليه الصلاة والسلام الحائض والنفساء بالاغتسال : دليل على أن الظاهر أولى بذلك . وفيه دليل على أن المحدث إذا أحرم ، أجزأه أحرامه
وينبغي أن يكونا أبيضين ، فإن الابيض أحب الثياب إلى الله تعالى . قال ابن عباس رضي الله عنهما : انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة بعد ما ترجل ، وادهن ، ولبس إزاره ورداءه ، هو وأصحابه . الحديث رواه البخاري .
( 3 ) التطيب : في البدن والثياب ، وإن بقي أثره عليه بعد الاحرام ( 1 ) . فعن عائشة رضي الله عنها قالت : كأني أنظر إلى وبيض ( 2 ) الطيب في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم . رواه البخاري ، ومسلم . ورويا عنها أنها قالت : كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لاحرامه قبل أن يحرم ، ولحله ( 3 ) قبل أن يطوف بالبيت . وقالت : ” كنا نخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ، فننضح جباهنا بالمسك عند الاحرام ، فإذا عرقت إحدانا ، سال على وجهها فيراه النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينهانا ، رواه أحمد ، وأبو داود .
( 4 ) صلاة ركعتين : ينوي بهما سنة الاحرام ، يقرأ في الاولى منهما بعد الفاتحة سورة ” الكافرون ” وفي الثانية سورة ” الاخلاص ” . قال ابن عمر رضي الله عنهما : كان النبي صلى الله عليه وسلم يركع بذي الحليفة ( 4 ) ركعتين . رواه مسلم . وتجزئ المكتوبة عنهما ، كما أن المكتوبة تغني عن تحية المسجد .
أنواع الاحرام الاحرام أنواع ثلاثة :
1 – قران . 2 – وتمتع . 3 – وإفراد .
( 1 ) كرهه بعض العلماء ، والحديث حجة عليهم . ( 2 ) ” وبيض ” أي بريق . ( 3 ) ” المراد بالاحلال ، بعد المرمى ” الذي يحل به الطيب وغيره ولا يمنع بعده الا من النساء كما سيأتي . ( 4 ) ” ذو الحليفة ” أي المكان الذي أحرم منه النبي صلى الله عليه وسلم .
وقد أجمع العلماء : على جواز كل واحد من هذه الانواع الثلاثة . فعن عائشة رضي الله عنها قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع . فمنا من أهل بعمرة ، ومنامن أهل بحج وعمرة ، ومنا من أهل بالحج . وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج . فأما من أهل بعمرة ، فحل عند قدومه ، وأما من أهل بحج ، أو جمع بين الحج والعمرة ، فلم يحل ، حتى كان يوم النحر ، رواه أحمد ، والبخاري ، ومسلم ، ومالك .
معنى القران ( 1 ) : أن يحرم من عند الميقات بالحج والعمرة معا . ويقول عند التلبية : ” لبيك بحج وعمرة ” . وهذا يقتضي بقاء المحرم على صفة الاحرام إلى أن يفرغ من أعمال العمرة والحج جميعا . أو يحرم بالعمرة ، ويدخل عليها الحج قبل الطواف ( 2 ) معنى التمتع : والتمتع : هو الاعتمار في أشهر الحج ، ثم يحج من عامه الذي اعتمر فيه . وسمي تمتعا ، للانتفاع بأداء النسكين في أشهر الحج ، في عام واحد ، من غير أن يرجع إلى بلده . ولان المتمتع يتمتع بعد التحلل من إحرامه بما يتمتع به غير المحرم من لبس الثياب ، والطيب ، وغير ذلك . وصفة التمتع : أن يحرم من الميقات بالعمرة وحدها ، ويقول عند التلبية ” لبيك بعمرة ” . وهذا يقتضي البقاء على صفة الاحرام حتى يصل الحاج إلى مكة ، فيطوف بالبيت ، ويسعى بين الصفا والمروة ، ويحلق شعره أو يقصره ، ويتحلل فيخلع
( 1 ) سمي بذلك ، لما فيه من القران والجمع بين والعمرة ، بإحرام واحد . ( 2 ) يطلق على هذا لفظ ” تمتع ” في الكتاب والسنة .
ثياب الاحرام ويلبس ثيابه المعتادة ويأتي كل ما كان قد حرم عليه بالاحرام ، إلى أن يجئ يوم التروية ، فيحرم من مكة بالحج . قال في الفتح : والذي ذهب إليه الجمهور : أن التمتع أن يجمع الشخص الواحد بين الحج والعمرة في سفر واحد في أشهر الحج ، في عام واحد ، وأن يقدم العمرة وأن يكون مكيا . فمتى اختل شرط من هذه الشروط لم يكن متمتعا .
معنى الافراد : والافراد أن يحرم من يريد الحج من الميقات بالحج وحده ، ويقول في التلبية : ” لبيك بحج ” ويبقى محرما حتى تنتهي أعمال الحج ، ثم يعتمر بعد أن شاء . أي أنواع النسك أفضل ؟
اختلف الفقهاء في الافضل من هذه الانواع ( 1 ) . فذهبت الشافعية إلى أن الافراد والتمتع أفضل من القران ، إذ أن المفرد ، أو المتمتع يأتي بكل واحد من النسكين بكمال أفعاله . والقارن يقتصر على عمل الحج وحده . وقالوا – في التمتع والافراد – قولان : أحدهما أن التمتع أفضل ، والثاني أن الافراد أفضل . وقالت الحنفية : القران أفضل من التمتع والافراد والتمتع ، أفضل من الافراد . وذهبت المالكية إلى أن الافراد أفضل من التمتع والقران . وذهبت الحنابلة إلى أن التمتع أفضل من القران ، ومن الافراد . وهذا هو الاقرب إلى اليسر ، والاسهل على الناس ( 2 ) .
( 1 ) هذا الاختلاف مبني على اختلافهم في حج رسول الله صلى الله عليه وسلم . والصحيح أنه كان قارنا لانه كان قد ساق الهدي . ( 2 ) لا سيما نحن – المصريين – وأمثالنا ممن لا يسوق معه هديا ، فإن ساق الهدي كان القران أفضل .
وهو الذي تمناه رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه وأمر به أصحابه . روى مسلم عن عطاء قال : سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : أهللنا – أصحاب محمد – صلى الله عليه وسلم بالحج خالصا وحده ، فقدم النبي صلى الله عليه وسلم صبح رابعة مضت من ذي الحجة فأمرنا أن نحل . قال : ” حلوا وأصيبوا النساء ” ولم يعزم عليهم ( 1 ) ، ولكن أحلهن لهم . فقلنا : لما لم يكن بيننا وبين عرفة إلا خمس أمرنا نفضي إلى نسائنا ، فنأتي عرفة ، تقطر مذاكيرنا المني ؟ . فقام النبي صلى الله عليه وسلم فينا ، فقال : ” قد علمتم أني أتقاكم لله ، وأصدقكم ، وأبركم ولو لا هديي لحللت كما تحلون ، ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ، فحلوا ” فحللنا ، وسمعنا ، وأطعنا . جواز اطلاق الاحرام من أحرم إحراما مطلقا ، قاصدا أداء ما فرض الله عليه ، من غير أن يعين نوعا من هذه الانواع الثلاثة ، لعدم معرفته بهذا التفصيل ، جاز وصح إحرامه . قال العلماء : ولو أهل ولبى – كما يفعل الناس – قصدا للنسك ، ولم يسم شيئا بلفظه ، ولا قصد بقلبه ، لاتمتعا ولاإفرادا ، ولاقرانا ، صح حجه أيضا . وفعل واحدا من الثلاثة . طواف القارن والمتمتع وسعيهما وانه ليس لاهل الحرم الا الافراد عن ابن عباس أنه سئل عن متعة الحج ؟ فقال : أهل المهاجرون ، والانصار ، وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ، واهل لنا ، فلما قدمنا مكة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” اجعلوا إهلالكم عمرة إلا من قلد الهدي ” فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة ، وأتينا النساء ولبسنا الثياب . وقال : ” من قلد الهدي فإنه لا يحل له حتى يبلغ الهدي محله ” ، ثم
( 1 ) ” لم يعزم عليهم ” : أي لم يوجبه .
أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج ، فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت ، وبالصفا والمروة ، فقدتم حجنا وعلينا الهدي كما قال الله تعالى : ( فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم ) إلى أمصاركم ( 1 ) الشاة تجزي . فجمعوا نسكين في عام ، بين الحج والعمرة ، فإن الله أنزله في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وأباحه للناس غير أهل مكة ، قال الله تعالى : ( ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ) .
وأشهر الحج التي ذكر الله تعالى : شوال ، وذو القعدة وذو الحجة . فمن تمتع في هذه الاشهر فعليه دم أو صوم . رواه البخاري .
1 – وفي هذا الحديث دليل على أن أهل الحرم لا متعة لهم ولا قران ( 2 ) ، وأنهم يحجون حجا مفردا ويعتمرون عمرة مفردة . وهذا مذهب ابن عباس وأبي حنيفة لقول الله تعالى : ( ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ) . واختلفوا في من هم حاضر والمسجد الحرام . فقال مالك : هم أهل مكة بعينها ، وهو قول الاعرج واختاره الطحاوي ، ورجحه . وقال ابن عباس وطاوس وطائفة : هم أهل الحرم . قال الحافظ : وهو الظاهر . وقال الشافعي : من كان أهله على أقل مسافة تقصر فيها الصلاة . واختاره ابن جرير . وقالت الاحناف من كان أهله بالميقات أو دونه . والعبرة بالمقام لا بالمنشأ .
2 – وفيه : أن على المتمتع أن يطوف ويسعى للعمرة أولا : ويغني هذا عن طواف القدوم الذي هو طواف التحية ثم يطوف طواف الافاضة بعد الوقوف بعرفة ، ويسعى كذلك بعده .
( 1 ) ” أمصاركم ” أي أوطانكم . ( 2 ) يرى مالك ، والشافعي ، وأحمد : أن للمكي أن يتمتع ويقرن ، بدون كراهة ، ولاشئ عليه .
أما القارن فقد ذهب الجمهور من العلماء : إلى أنه يكفيه عمل الحج ، فيطوف طوافا واحدا ( 1 ) ويسعى سعيا واحدا للحج والعمرة ، مثل الفرد ( 2 ) . 1 – فعن جابر رضي الله عنه ، قال : قرن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج والعمرة . وطاف لهما طوافا واحدا . رواه الترمذي وقال : حديث حسن . 2 – وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” من أهل بالحج والعمرة ، أجزأه طواف واحد وسعي واحد ” . رواه الترمذي . وقال : حسن صحيح غريب ، وخرجه الدارقطني وزاد : ” ولا يحل منهما حتى يحل منهما جميعا ” . 3 – وروى مسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة ” طوافك بالبيت ، وبين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك ” . وذهب أبو حنيفة : إلى أنه لابد من طوافين وسعيين . والاول أولى لقوة أدلته . 4 – وفي الحديث : أن على التمتع والقارن هديا ، وأقله شاة ، فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج ، وسبعة إذا رجع إلى أهله والاولى أن يصوم الايام الثلاثة في العشر من ذي الحجة قبل يوم عرفة . ومن العلماء من جوز صيامها من أول شوال . منهم : طاوس ، ومجاهد . ويرى ابن عمر رضي الله عنهما أن يصوم قبل يوم التروية ويوم التروية ، ويوم عرفة . فلولم يصمها ، أو يصم بعضه قبل العيد ، فله أن يصومها في أيام التشريق لقول عائشة وابن عمر رضي الله عنهما : لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن ، إلا لمن لا يجد الهدي . رواه البخاري .
وإذا فاته صيام الايام الثلاثة في الحج ، لزمه قضاؤها .
( 1 ) أي طواف الافاضة بعد الوقوف بعرفة . ( 2 ) والفرق بينهما أنه في حالة القرن يقرن بينهما في نيته عند الاحرام
وأما السبعة الايام . فقيل : يصومها إذا رجع إلى وطنه . وقيل إذا رجع إلى رحله . وعلى الرأي الاخير يصح صومها في الطريق . هو مذهب مجاهد ، وعطاء . ولا يجب التتابع في صيام هذه الايام العشرة . وإذا نوى وأحرم شرع له أن يلبي .
التلبية ( 1 ) حكمها : أجمع العلماء على : أن التلبية مشروعة . فعن أم سلمة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ” يا آل محمد ، من حج منكم فليهل ( 2 ) في حجه ” أو ( 3 ) ” حجته ” رواه أحمد ، وابن حبان . وقد اختلفوا في حكمها ، وفي وقتها ، وفي حكم من أخرها . فذهب الشافعي ، وأحمد : إلى أنها سنة ، وأنه يستحب اتصالها بالاحرام . فلو نوى النسك ولم يلب ، صح نسكه ، دون أن يلزمه شئ لان الاحرام عندهما ينعقد بمجرد النية . ويرى الاحناف : أن التلبية ، أو ما يقوم مقامها – مما هو في معناها كالتسبيح ، وسوق الهدي – شرط من شروط الاحرام ، فلو أحرم ، ولم يلب أو لم يسبح ، أو لم يسق الهدي فلا إحرام له . وهذا مبني : على أن الاحرام عندهم مركب من النية وعمل من أعمال الحج . فإذا نوى الاحرام وعمل عملا من أعمال النسك ، فسبح ، أو هلل ، أو ساق الهدي ولم يلب ، فإن إحرامه ينعقد ، ويلزمه بترك التلبية دم .
( 1 ) التلبية : من ” لبيك ” بمنزلة التهليل من ” لا إله إلا الله ” ( 2 ) ” فليهل ” أي ليرفع صوته بالتلبية . ( 3 ) أو ( للشك )
ومشهور مذهب مالك : انها واجبة ، يلزم يتركها أو ترك اتصالها بالاحرام مع الطول دم . لفظها : روى مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما : أن تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” لبيك ( 1 ) اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد لك والنعمة لك والملك ، لا شريك لك ” . قال نافع : وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يزيد فيها ” لبيك ، لبيك ، لبيك وسعديك ( 2 ) والخير بيديك ، لبيك والرغباء ( 3 ) إليك ، والعمل ” ، وقد استحب العلماء الاقتصار على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم واختلفوا في الزيادة عليها . فذهب الجمهور : إلى أنه لا بأس بالزيادة عليها ، كما زاد ابن عمروكما زاد الصحابة والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع ولا يقول لهم شيئا ، رواه أبو داود ، والبيهقي . وكره مالك ، وأبو يوسف : الزيادة على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فضلها : 1 – روى ابن ماجة عن جابر رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” مامن محرم يضحي يومه ( 4 ) يلبي حتى تغيب الشمس ، إلا غابت ذنوبه فعاد كما ولدته أمه ” .
2 – وعن أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” منا
( 1 ) قال الزمخشري : معنى لبيك : أي دواما على طاعتك ، وإقامة عليها مرة بعد أخرى ، من ” لب ” بالمكان ، و ” ألب ” . إذا أقام به . ( 2 ) وسعديك : أي إسعاد بعد إسعاد ، من المساعدة والموافقة على الشئ . ( 3 ) ” الرغباء ” أي الطلب والمسألة . والمعنى الرغبة إلى من بيده الخير . وهو المقصود بالعمل . ( 4 ) ” يضحي ” أي يظل يومه
أهل مهل قط ، إلا بشر ، ولاكبر مكبر قط إلا بشر ” . قيل : يا نبي الله : بالجنة ؟ قال : ” نعم ” . رواه الطبراني ، وسعد بن منصور .
3 – وعن سهل بن سعد ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” ما من مسلم يلبي إلا لبي من عن يمينه وشماله ، من حجر ، أو شجر ، أو مدر ( 1 ) حتى تنقطع الارض من هاهنا وهاهنا ” . رواه ابن ماجه ، والبيهقي ، والترمذي والحاكم ، وصححه .
استحباب الجهر بها : 1 – عن زيد بن خالد ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” جاءني جبريل عليه السلام فقال : مر أصحابك فليرفعوا أصواتهم بالتلبية ، فإنها من شعائر الحج ” . رواه ابن ماجة ، وأحمد ، وابن خزيمة ، والحاكم ، وقال : صحيح الاسناد .
2 – وعن أبي بكر رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل : أي الحج أفضل ؟ فقال : ” العح ( 2 ) والثج ( 3 ) ” . رواه الترمذي ، وابن ماجه .
3 – وعن أبي حازم قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أحرموا ، لم يبلغوا الروحاء حتى تبح ( 4 ) أصواتهم . وقد استحب الجمهور رفع الصوت بالتلبية ، لهذه الاحاديث : وقال مالك : لا يرفع ( الملبي ) الصوت في مسجد الجماعات بل يسمع نفسه ومن يليه ، إلا في مسجد منى والمسجد الحرام ، فإنه يرفع صوته فيهما . وهذا بالنسبة للرجال : أما المرأة فتسمع نفسها ومن يليها ، ويكره لها أن ترفع صوتها أكثر من ذلك .
( 1 ) ” المدر ” أي الحصى . ( 2 ) ” العج ” رفع الصوت بالتلبية . ( 3 ) ” الثج ” نحر الهدي . ( 4 ) ” تبح ” أي تغلظ وتخش
وقال عطاء : يرفع الرجال أصواتهم . وأما المرأة فتسمع نفسها ، ولا ترفع صوتها . المواطن التي تستحب التلبية فيها : تستحب التلبية في مواطن : عند الركوب ، أو النزول ، وكلما علا شرفا ( 1 ) أو هبط واديا ( 2 ) ، أو لفي ركبا ، وفي دبر كل صلاة ، وبالاسحار . قال الشافعي : ونحن نستحبها على كل حال .
وقتها : يبدأ المحرم بالتلبية من وقت الاحرام ، إلى رمي جمرة العقبة يوم النحر ، باول حصاة ثم يقطعها . فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لم يزل يلبي حتى بلغ الجمرة . رواه الجماعة . وهذا مذهب الثوري ، والاحناف ، والشافعي وجمهور العلماء . وقال أحمد ، وإسحاق : يلبي حتى يرمي الجمرات جميعها ، ثم يقطعها . وقال مالك : يلبي حتى تزول الشمس من يوم عرفة ثم يقطعها . هذا بالنسبة للحج . وأما المعتمر فيلبي حتى يستلم الحجر الاسود . فعن ابن عباس رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمسك عن التلبية في العمرة إذا استلم الحجر . رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح والعمل عليه عند أكثر أهل العلم ( 3 ) .
استحباب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء بعدها : عن القاسم بن محمد بن أبي بكر ، قال : يستحب للرجل – إذا فرغ من تلبينه – أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم . وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من تلبيته سأل الله مغفرته ورضوانه ، واستعقه من الناس . رواه الطبراني وغيره .
( 1 ) ” الشرف ” المكان المرتفع . ( 2 ) ” الوادي ” المكان المنخفض . ( 3 ) قال إذا أحرم من الميقات قطع التلبية بدخول الحرم . وإن أحرم من الجعرانة أو التنعيم قطعها إذا دخل بيوت مكة
ما يباح للمحرم . ( 1 ) الاغتسال وتغيير الرداء والازار : فعن إبراهيم النخعي قال : كان أصحابنا إذا أتوا بئرا ميمون اغتسلوا ، ولبسوا أحسن ثيابهم . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أنه دخل حمام الجحفة وهو محرم . قيل له : أتدخل الحمام وأنت محرم ؟ فقال : إن الله ما يعبأ ( 1 ) بأوساخنا شيئا . وعن جابر رضي الله عنه قال : يغتسل المحرم ، ويغسل ثوبه . وعن عبد الله بن حنين : أن ابن عباس ، والمسور بن مخرمة اختلفا بالابواء ( 2 ) فقال ابن عباس : يغسل المحرم رأسه . وقال المسور : لا يغسل المحرم رأسه ، قال : فأرسلني ابن عباس إلى أبي أيوب الانصاري ، فوجدته يغتسل بين القرنين ( 3 ) ، وهو يستر بثوب ، فسلمت عليه ، فقال : من هذا ؟ فقلت : أنا عبد الله بن حنين . أرسلني اليك ابن عباس يسألك : كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل ، وهو محرم ؟ قال : فوضع أبو أيوب يده على الثوب فطأطأه ( 4 ) حتى بدا لي رأسه ثم قال : الانسان يصب عليه الماء : أصبب ، فصب على رأسه ، ثم حرك رأسه بيده ، فأقبل بهما ، وأدبر فقال : هكذا رأيته صلى الله عليه وسلم يفعل . رواه الجماعة ، إلا الترمذي . وزاد البخاري في رواية : فرجعت اليهما فأخبرتهما ، فقال المسور لابن عباس : لا أماريك ( 5 ) أبدا . قال الشوكاني : والحديث يدل على جواز الاغتسال للمحرم ، وتغطية الرأس باليد حاله – أي حال الاغتسال . قال ابن المنذر : أجمعوا : على أن للمحرم أن يغتسل من الجنابة ، واختلفوا فيما عدا ذلك .
( 1 ) ” ما يعبأ ” : أي لا يصنع . ( 2 ) ” الابواء ” : اسم مكان . ( 3 ) ” القرنين ” قرني البئر . ( 4 ) ” طأطأ ” : أي أزاله عن رأسه . ( 5 ) ” أماريك ” أي أجادلك
وروى مالك في الموطأ عن نافع : أن ابن عمر رضي الله عنهما كان لا يغسل رأسه وهو محرم ، إلا من الاحتلام . وروي عن مالك : أنه كره للمحرم أن يغطي رأسه في الماء . ويجوز استعمال الصابون وغيره من كل ما يزيل الاوساخ ، كالاشنان والسدر ( 1 ) والخطمي . وعند الشافعية والحنابلة ، يجوز أن يغتسل بصابون له رائحة ، وكذلك يجوز نقض الشعر وامتشاطه ، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة فقال : ” انقضي رأسك وامتشطي ” . رواه مسلم . قال النووي : نقض الشعر والامتشاط جائزان عندنا في الاحرام بحيث لا ينتف شعرا ، ولكن يكره الامتشاط إلا لعذر ، ولا بأس بحمل متاعه على رأسه . ( 2 )
لبس التبان : وروى البخاري ، وسعيد بن منصور عن عائشة : أنها كانت لا ترى بالتبان بأسا للمحرم ( 2 )
( 3 ) تغطية وجهه : روى الشافعي ، وسعيد بن منصور ، عن القاسم ، قال : كان عثمان بن عفان ، وزيد بن ثابت ، ومروان بن الحكم يخمرون ( 3 ) وجوههم وهم محرمون . وعن طاوس : يغطي المحرم وجهه من غبار ، أو رماد . وعن مجاهد قال : كانوا إذا هاجت الريح غطوا وجوههم ، وهم محرمون .
( 1 ) ” السدر ” : ورق النبق . ( 2 ) ” التبان ” سروال قصير ، قال الحافظ : هذا رأي رأته عائشة ، والاكثرون على أنه لا فرق بين التبان والسراويل ، في منعه للمحرم . ( 3 ) ” يخمرون ” أي يسترون
( 4 ) لبس الخفين للمرأة : لما رواه أبو داود ، والشافعي عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان رخص للنساء في الخفين .
( 5 ) تغطية رأسه ناسيا : قالت الشافعية : لا شئ على من غطى رأسه ناسيا ، أو لبس قميصه ناسيا . وقال عطاء : لاشئ عليه ، ويستغفر الله تعالى . وقالت الاحناف : عليه الفدية . وكذلك الخلاف فيما إذا تطيب ناسيا ، أو جاهلا . وقاعدة الشافعية : أن الجهل والنسيان ، عذر يمنع وجوب الفدية في كل محظور ، ما لم يكن إتلافا كالصيد ، وكذلك الحق والقلم ( 1 ) ، على الاصح عندهم . وسيأتي ذلك في موضعه .
( 6 ) الحجامة ، وفق ء الدمل ، ونزع الضرس ، وقطع العرق : قد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم وسط رأسه ( 2 ) وقال مالك : لا بأس للمحرم أن يفقأ الدمل ، ويربط الجرح ، ويقطع العرق إذا احتاج . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : المحرم ينزع ضرسه ، ويفقأ القرحة . قال النووي : إذا أراد المحرم الحجامة لغير حاجة ، فإن تضمنت قطع شعر فهي حرام ، لقطع الشعر ، وإن لم تتضمنه جازت عند الجمهور ، وكرهها مالك . وعن الحسن : فيها الفدية ، وإن لم يقطع شعرا . وإن كان لضرورة جاز قطع الشعر وتجب الفدية . وخص أهل الظاهر الفدية بشعر الرأس .
( 1 ) ” القلم ” : أي قص الاظافر . ( 2 ) قال ابن تيمية : لا يمكن ذلك إلا مع حلق بعض الشعر
( 7 ) حك الرأس والجسد : فعن عائشة رضي الله عنها : أنها سئلت عن المحرم يحك جسده ؟ قالت : نعم ، فليحككه وليشدد . رواه البخاري ، ومسلم ، ومالك . وزاد : ولو ربطت يداي ولم أجد إلا رجلي لحككت . وروي مثل ذلك عن ابن عباس ، وجابر وسعيد بن جبير ، وعطاء ، وإبراهيم النخعي .
( 8 ، 9 ) النظر في المرآة وشم الريحان : روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : المحرم يشم الريحان وينظر في المرآة ، ويتداوى بأكل الزيت والسمن . وعن عمربن عبد العزيز : أنه كان ينظر فيها وهو محرم ، ويتسوك وهو محرم . وقال ابن المنذر : أجمع العلماء على أن للمحرم أن يأكل الزيت والشحم والسمن ، وعلى أن المحرم ممنوع من استعمال الطيب في جميع بدنه . وكره الاحناف والمالكية المكث في مكان فيه روائح عطرية ، سواء أقصد شمها أم لم يقصد . وعند الحنابلة والشافعية : إن قصد حرم عليه ، وإلا فلا . وقال الشافعية : ويجوز أن يجلس عند العطار في موضع يبخر ، لان في المنع من ذلك مشقة ، ولان ذلك ليس بطيب مقصود . والمستحب أن يتوقى ذلك إلا أن يكون في موضع قربة ، كالجلوس عند الكعبة وهي تجمر ، فلا يكره ذلك ، لان الجلوس عندها قربة ، فلا يستحب تركها لامر مباح . وله أن يحمل الطيب في خرقة أو قارورة ولا فدية عليه .
( 10 ، 11 ) شد الهميان في وسط المحرم ليحفظ فيه نقوده ونقود غيره ولبس الخاتم . قال ابن عباس : لا بأس بالهميان ، والخاتم ، للمحرم .
( 12 ) الاكتحال : قال ابن عباس رضي الله عنهما : يكتحل المحرم بأي كحل إذا رمد ، ما لم يكتحل بطيب ، ومن غير رمد . وأجمع العلماء على جوازه للتداوي لاللزينة .
( 13 ) تظلل المحرم بمظلة أو خيمة أو سقف ونحو ذلك : قال عبد الله بن عامر : خرجت مع عمر رضي الله عنه فكان يطرح النطع على الشجرة ، فيستظل به وهو محرم ، أخرجه ابن أبي شيبة . وعن أم الحصين رضي الله عنها قالت : حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع ، فرأيت أسامة بن زيد ، وبلالا ، وأحدهما آخذ بخطام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم ، والاخر رافع ثوبه يستره من الحر ، حتى رمى جمرة العقبة . أخرجه أحمد ، ومسلم . وقال عطاء : يستظل المحرم من الشمس ، ويستكن من الريح والمطر . وعن ابراهيم النخعي : أن الاسود بن يزيد ، طرح على رأسه كساء يستكن ، به من المطر ، وهو محرم .
( 14 ) الخضاب بالحناء : ذهبت الحنابلة إلى أنه لا يحرم على المحرم ، ذكرا كان أو انثى ، الاختضاب بالحناء ، في أي جزء من البدن ما عدا الرأس . وقالت الشافعية : يجوز للرجل الخضاب بالحناء حال الاحرام في جميع أجزاء جسده ، ما عدا اليدين والرجلين ، فيحرم خضبهما بغير حاجة ، وكذا لا يغطي رأسه بحناء ثخينة . وكرهوا للمرأة الخضاب بالحناء حال الاحرام إلا إذا كانت معتدة من وفاة ، فيحرم عليها ذلك ، كما يحرم عليها الخضاب إذا كان نقشا ، ولو كانت معتدة . وقالت الاحناف والمالكية : لا يجوز للمحرم أن يختضب بالحناء في أي جزء من البدن سواء أكان رجلا أم امرأة ، لانه طيب ، والمحرم ممنوع من التطيب . وعن خولة بنت حكيم عن أمها ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لام سلمة ” لا تطيبي وأنت محرمة ، ولا تمسي الحناء فإنه طيب ” . رواه الطبراني في الكبير ، والبيهقي في المعرفة ، وابن عبد البر في التمهيد .
( 15 ) ضرب الخادم للتأديب : فعن أسماء بنت أبي بكر قالت : ” خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجاجا ، حتى إذا كنا بالعرج ( 1 ) ، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ونزلنا ، فجلست عائشة إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلست إلى جنب أبي بكر ، وكانت زمالة ( 2 ) رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمالة أبي بكر واحدة ، مع غلام لابي بكر ، فجلس أبو بكر ينتظر أن يطلع الغلام ، فطلع ، وليس مع بعيره ، فقال : أين بعيرك ؟ قال : أضللته البارحة . فقال ابو بكر : بعير واحد تضلله ؟ فطفق يضربه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم ، ويقول : ” انظروا لهذا المحرم ما يصنع ” ؟ فما يزيد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يقول : ” انظروا لهذا المحرم ما يصنع ” . ويبتسم . رواه أحمد ، وأبو داود ، وابن ماجه .
( 16 ) قتل الذباب والقراد والنمل : فعن عطاء : أن رجلا سأله عن القرادة والنملة تدب عليه وهو محرم ، فقال : ألق عنك ما ليس منك . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : لا بأس أن يقتل المحرم القرادة والحلمة ( 3 ) . ويجوز نزع القراد من البعير للمحرم . ( ( 1 ) ” العرج ” : اسم موضع بين مكة والمدينة . ( 2 ) ” الزمالة ” : أداة المسافر وما يكون معه من السفر . ( 3 ) ” الحلمة ” أكبر القراد
فعن عكرمة : أن ابن عباس أمره أن يقرد ( 1 ) بعيرا وهو محرم ، فكره ذلك عكرمة ، قال : قم فانحره ، فنحره ، قال : لا أم لك ( 2 ) ، كم قتلت فيها من قرادة ، وحلمة ، وحمنانة ( 3 )
( 17 ) قتل الفواسق الخمس وكل ما يؤذي : فعن عائشة قالت ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” خمس من الدواب كلهن فاسق ( 4 ) يقتلن في الحرم ( 5 ) : الغراب ، والحدأة ، والعقرب . والفأرة ، والكلب العقور ” . رواه مسلم ، والبخاري ، وزاد ” الحية ” . وقد اتفق العلماء على إخراج غراب الزرع ، وهو الغراب الصغير الذي يأكل الحب . ومعنى الكلب العقور : كل ما عقر الناس وأخافهم ، وعدا عليهم ، مثل الاسد ، والنمر ، والفهد والذئب . لقول الله تعالى : ” يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات ، وما علمتم من الجوارح ( 6 ) مكلبين ( 7 ) تعلمونهن مما علمكم الله ” فاشقها من الكلب . وقالت الاحناف : لفظ ” الكلب ” قاصر عليه ، لا يلحق به غيره في هلا الحكم سوى الذئب . قال ابن تيمية : وللمحرم أن يقتل ما يؤذي – بعادته – الناس ، كالحية ، والعقرب ، والفأرة ، والغراب ، والكلب العقور .
( 1 ) ” يقرد ” أي ينزع . ( 2 ) ” لا أم لك : سب وذم ، وقد يكثر على الالسنة ولا يقصد به الذم . ( 3 ) ” الحمنانة ” : أقل من الحلمة . ( 4 ) سميت بهذا الاسم لخروجها عن حكم غيرها من الحيوانات ، في تحريم قتل المحرم لها ، فإن الفسق معناه الخروج . وقيل : إنما وصفت بهذا الوصف لخروجها عن غيرها من الحيوانات ، في حل أكله ، أو لخروجها عن حكم غيرها بالايذاء ، والافساد ، وعدم الانتفاع . ( 5 ) والحل أيضا . وهو رواية مسلم . ( 6 ) ” الجوارح ” : الكواسب التي تصاد ، وهي سباع البهائم والطير كالكب ، والصقر . ( 7 ) ” مكلبين ” : أي معلمين وله أن يدفع ما يؤذيه من الادميين ، والبهائم ، حتى ولو صال عليه أحد ولم يندفع إلا بالقتال قاتله . فأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” من قتل دون ماله فهو شهيد ، ومن قتل دون دمه فهو شهيد ، ومن قتل دون دينه فهو شهيد ، ومن قتل دون حرمته فهو شهيد ” . قال : وأذا قرصته البراغيث والقمل ، فله إلقاؤها عنه ، وله قتلها ، ولا شئ عليه ، وإلقاؤها أهون من قتلها . وكذلك ما يتعرض له من الدواب فينهى عن قتله ، وإن كان في نفسه محرما ، كالاسد ، والفهد ، فإذا قتله فلا جزاء عليه في أظهر قولي العلماء . وأما التفلي بدون التأذي ، فهو من الترفه فلا يفعله ، ولو فعله فلا شئ عليه . محظورات الاحرام
حظر الشارع على المحرم أشياء ، وحرمها عليه ، نذكرها فيما يلي :
1 – الجماع ودواعيه ، كالتقبيل ، واللمس لشهوة ، وخطاب الرجل المرأة فيما يتعلق بالوطء .
2 – اكتساب السيئات ، واقتراف المعاصي التي تخرج المرء عن طاعة الله .
3 – المخاصمة مع الرفقاء والخدم وغيرهم . والاصل في تحريم هذه الاشياء ، قول الله تعالى : ( فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال ( 1 ) في الحج ) . وروى البخاري ، ومسلم ، عن أبي هريرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” من حج ولم يرفث ، ولم يفسق ، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه ” .
( 1 ) الجدال المنهي عنه هنا : هو الجدال بغير علم ، أو الجدال في باطل ، أما الجدال في طلب الحق فهو مستحب أو واجب ( وجادلهم بالتي هي أحسن .
4 – لبس المخيط ( 1 ) كالقميص والبرنس والقباء ( 2 ) والجبة والسراويل ، أو لبس المحيط كالعمامة ، والطربوش ونحو ذلك مما يوضع على الرأس . وكذلك يحرم لبس الثوب المصبوغ بما له رائحة طيبة ، كما يحرم لبس الخف والحذاء ( 3 ) . فعن ابن عمر رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” لا يلبس المحرم القميص ، ولا العمامة ، ولا البرنس ( 4 ) ولا السراويل ، ولا ثوبا مسه ورس ( 5 ) ، ولا زعفران ، ولا الخفين ، إلا ألا يجد نعلين فليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين ” . رواه البخاري ، ومسلم . وقد أجمع العلماء على أن هذا مختص بالرجل . أما المرأة فلا تلحق به ، ولها أن تلبس جميع ذلك ، ولا يحرم عليها إلا الثوب الذي مسه الطيب والنقاب ( 6 ) والقفازان ( 7 ) . لقول ابن عمر رضي الله عنهما : نهى النبي صلى الله عليه وسلم النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب ، وما مس الورس ، والزعفران من الثياب ، ولتلبس بعد ذلك ما أحبت من ألوان الثياب ، من معصفر ( 8 ) أو خز ( 9 ) ، أو حلي ( 10 ) ، أو سراويل أو قميص ، أو خف . رواه أبوه داود ، والبيهقي ، والحاكم ورجاله رجال الصحيح . قال البخاري : ولبست عائشة الثياب المعصفرة وهي محرمة ، وقالت : لا تلثم ، ولا تتبرقع ، ولا تلبس ثوبا بورس ولا زعفران . وقال جابر : لا أرى المعصفر طيبا . ولم تر عائشة بأسا بالحلي ، والثوب الاسود ، والمورد ، والخف للمرأة وعند البخاري ، وأحمد عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
( 1 ) المخيط : ما لبس على قدر العضو . ( 2 ) ” القباء ” : القفطان . ( 3 ) ” الحذاء ” في اللغة العامية المصرية : الجزمة ، أو الكندرة . ( 4 ) ” البرنس ” : كل ثواب رأسه منه . ( 5 ) ” الورس ” : نبت أصفر طيب الريح يصبغ به . ( 6 ) ” النقاب ” : ما يستر الوجه كالبرقع . ( 7 ) ” القفازان ” : الجوانتي . ( 8 ) ” المعصفر ” : المصبوغ بالعصفر . ( 9 ) ” الخز ” : نوع من الحرير . ( 10 ) ” حلي ” ما تتزين به المرأة
” لا تنتقب المرأة المحرمة ، ولا تلبس القفازين ” . وفي هذا دليل على أن إحرام المرأة في وجهها وكفيها : قال العلماء : فإن سترت وجهها بشئ فلا باس ( 1 ) . ويجوز ستره عن الرجل بمظلة ونحوها ، ويجب ستره إذا خيفت الفتنة من النظر . قالت عائشة : كان الركبان يمرون بنا ، ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات ، فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبانها ( 2 ) على وجهها ، فإذا جاوزوا بنا كشفناه . رواه أبو داود ، وابن ماجه . وممن قال بجواز سدل الثوب : عطاء ، ومالك ، والثوري ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق .
الرجل الذي لا يجد الازار ولا الرداء ولا النعلين : من لم يجد الازار والرداء ، أو النعلين لبس ما وجده . فعن ابن عباس رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب بعرفات وقال : ” إذا لم يجد المسلم إزارا فليلبس السراويل ، وإذا لم يجد النعلين فليلبس الخفين ( 3 ) ” . رواه أحمد ، والبخاري ، ومسلم . وفي رواية لاحمد ، عن عمرو بن دينار : أن أبا الشعثاء أخبره عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم – وهو يخطب – يقول : ” من لم يجد إزارا ووجد سراويل فليلبسها ، ومن لم يجد نعلين ووجد خفين فليلبسهما ” . قلت : ولم يقل ليقطعهما ؟ قال : لا . وإلى هذا ذهب أحمد فأجاز للمحرم لبس الخف والسراويل ، للذي لا يجد النعلين والازار ، على حالهما ، استدلالا بحديث ابن عباس وأنه لافدية ( 4 ) عليه .
( 1 ) اشتراط المجافاة عن الوجه ضعيف لا أصل له ، أفاده ابن القيم . كذلك حديث : إحرام الرجل في رأسه وإحرام المرأة في وجهها . ( 2 ) ” الجلباب ” الملحفة . ( 3 ) أي إذا لم يجد هذه الاشياء تباع ، أو وجدها ، ولكن ليس معه ثمن فاضل عن حوائجه الاصلية . ( 4 ) رجح هذا ابن القيم
وذهب جمهور العلماء : إلى اشتراط قطع الخف دون الكعبين لمن لم يجد النعلين ، لان الخف يصير بالقطع كالنعلين . لحديث ابن عمر المتقدم ، وفيه ” إلا ألا يجد نعلين فليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين ” . ويرى الاحناف شق السراويل وفتقها لمن لا يجد الازار ، فإذا لبسها على حالها لزمته الفدية . وقال مالك والشافعي : لا يفتق السراويل ، ويلبسها على حالها ، ولا فدية عليه ، لما رواه جابر بن زيد عن ابن عباس رضي الله عنهما ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” إذا لم يجد إزارا فليلبس السراويل ، وإذا لم يجد النعلين ، فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين ” . رواه النسائي بسند صحيح . فإذا لبس السراويل ، ووجد الازار لزمه خلعه . فإذا لم يجد رداء لم يلبس القميص ، لانه يرتدي به ولا يمكنه أن يتزر بالسراويل .
5 – عقد النكاح لنفسه أو لغيره ، بولاية ، أو وكالة . ويقع العقد باطلا ، لا تترتب عليه آثاره الشرعية . لما رواه مسلم وغيره ، عن عثمان بن عفان : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” لا ينكح المحرم ، ولا ينكح ، ولا يخطب ” . رواه الترمذي وليس فيه ” ولا يخطب ” . وقال : حديث حسن صحيح ، والعمل على هذا عند بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وبه يقول مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحق ، ولا يرون أن يتزوج المحرم ، وإن نكح فنكاحه باطل . وما ورد من أن النبي صلى الله عليه وسلم : ” تزوج ميمونة وهو محرم ” فهو معارض بمارواه مسلم ” أنه تزوجها وهو حلال ” . قال الترمذي : اختلفوا في تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة ، لانه صلى الله عليه وسلم تزوجها في طريق مكة ، فقال بعضهم : تزوجها وهو حلال ، وظهر أمر تزويجها وهو محرم ، ثم بنى بها وهو حلال بسرف ، في طريق مكة . وذهب الاحناف إلى جواز عقد النكاح للمحرم ، لان الاحرام لا يمنع صلاحية المرأة للعقد عليها ، وإنما يمنع الجماع ، لاصحة العقد .
( 6 ، 7 ) تقليم الاظفار وإزالة الشعر بالحلق ، أو القص أو بأية طريقة ، سواء أكان شعر الرأس أم غيره لقول الله تعالى : ” ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله ” . وأجمع العلماء : على حرمة قلم الظفر للمحرم ، بلا عذر ، فإن انكسر ، فله إزالته من غير فدية . ويجوز إزالة الشعر ، إذا تأذى ببقائه ، وفيه الفدية إلا في إزالة شعر العين إذا تأذى به المحرم فإنه لافدية فيه ( 1 ) . قال الله تعالى : ” فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ” . وسيأتي بيان ذلك .
( 8 ) التطيب في الثوب أو البدن ، سواء أكان رجلا أم امرأة : فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر وجد ريح طيب من معاوية ، وهو محرم . فقال له : ارجع فاغسله ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ” الحاج الشعث التفل ” . رواه البزار بسند صحيح . ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” أما الطيب الذي بك فاغسله عنك ، ثلاث مرات ” . وإذا مات المحرم لا يوضع الطيب في غسله ولافي كفنه ( 2 ) لقوله صلى الله عليه وسلم – فيمن مات محرما – : ” لا تخمروا رأسه ، ولا تمسوه طيبا ، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا ” . وما بقي من الطيب الذي وضعه في بدنه ، أو ثوبه ، قبل الاحرام ، فإنه لا بأس به .
( 1 ) قالت المالكية : فيه الفدية . ( 2 ) جوز ذلك أبو حنيفة
ويباح شم ما لا ينبت للطيب ، كالتفاح والسفرجل ، فإنه يشبه سائر النبات ، في أنه لا يقصد للطيب ولا يتخذ منه . وأما حكم ما يصيب المحرم من طيب الكعبة فقد روى سعيد بن منصور ، عن صالح بن كيسان ، قال : رأيت أنس بن مالك ، وأصاب ثوبه – وهو محرم – من خلوق الكعبة ، فلم يغسله . وروى عن عطاء ، قال : لا يغسله ولا شئ عليه . وعند الشافعية من تعمد إصابة شئ من ذلك ، أو أصابه ، وأمكنه غسله ، ولم يبادر إليه فقد أساء ، وعليه الفدية .
( 9 ) لبس الثوب مصبوغا بماله رائحة طيبة : اتفق العلماء على حرمة لبس الثوب المصبوغ بما له رائحة طيبة ، إلا أن يغسل ، بحيث لا تظهر له رائحة . فعن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” لا تلبسوا ثوبا مسه ورس ، أو زعفران ، إلا أن يكون غسيلا ” يعني في الاحرام ، رواه ابن عبد البر ، والطحاوي . ويكره لبسه لمن كان قدوة لغيره ، لئلا يكون وسيلة لان يلبس العوام ما يحرم ، وهو المطيب . لما رواه مالك عن نافع : أنه سمع أسلم – مولى عمر بن الخطاب – يحدث عبد الله بن عمر : أن عمربن الخطاب رأى على طلحة بن عبيد الله ثوبا مصبوغا وهو محرم ، فقال عمر : ماهذا الثوب المصبوغ يا طلحة ؟ فقال طلحة : يا أمير المؤمنين إنما هو مدر ( 1 ) . فقال عمر : إنكم – أيها الرهط – أئمة يقتدي بكم الناس ، فلو أن رجلا جاهلا رأى هذا الثوب لقال : إن طلحة بن عبيد الله كان يلبس الثياب المصبغة في الاحرام ، فلا تلبسوا – أيها الرهط – شيئا من هذه الثياب المصبغة . وأما وضع الطيب في مطبوغ ، أو مشروب ، بحيث لم يبق له طعم ولا لون ولاريح ، إذا تناوله المحرم فلا فدية عليه .
( 1 ) ” مدر ” : أي مصبوغة بالمغرة . وهو الدر الاحمر الذي تصبغ به الثياب
وإن بقيت رائحته ، وجبت الفدية بأكله عند الشافعية . وقالت الاحناف : لافدية عليه ، لانه لم يقصد به الترفه بالطيب .
( 10 ) التعرض للصيد : يجوز للمحرم أن يصيد صيد البحر ، وأن يتعرض له ، وأن يشير إليه ، وأن يأكل منه . وأنه يحرم عليه التعرض لصيد البر ( 1 ) بالقتل أو الذبح ، أو الاشارة إليه ، وإن كان مرئيا ، أو الدلالة عليه ، إن كان غير مرئي ، أو تنفيره . وأنه يحرم عليه إفساد بيض الحيوان البري ، كما يحرم عليه بيعه وشراؤه وحلب لبنه . الدليل على هذا قول الله تعالى : ” أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة ( 2 ) وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ” .
( 11 ) الاكل من الصيد : يحرم على المحرم الاكل من صيد البر الذي صيد من أجله أو صيد بإشارته إليه ، أو بأعانته عليه . لما رواه البخاري ومسلم عن عن أبي قتادة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج حاجا ، فخرجوا معه ، فصرف طائفة منهم – فيهم أبو قتادة – فقال : ” خذوا ساحل البحر حتى نلتقي ” فأخذوا ساحل البحر . فلما انصرفوا ، أحرموا كلهم إلا أبا قتادة لم يحرم ، فبينما هم يسيرون ، إذا رأوا حمر وحش ، ( 1 ) ” البري ” : هو ما يكون توالده وتناسله في البر ، وإن كان يعيش في الماء ” والبحري ” بخلافه عند الجمهور . وعند الشافعية : البري ما يعيش في البر فقط ، أو في البر والبحر . و ” البحري ” ما لا يعيش إلا في البحر . ( 2 ) قصر الشافعية والحنابلة : الحرمة على الصيد المأكول من الوحش والطير ، فقالوا بحرمة قتله دون غيره من حيوانات البر ، فإنه يجوز قتلها عندهم . والجمهور يرى تحريم قتلها جميعا ، سواء أكانت مأكولة أم غير مأكولة إلا ما استثناء الحديث : خمس يقتلن في الحل والحرام . . الخ .
فحمل أبو قتادة على الحمر فعقر منها أتانا ( 1 ) ، فنزلوا فأكلوا من لحمها ، وقالوا : أنأكل لحم صيد ، ونحن محرمون ؟ فحملنا ما بقي من لحم الاتان فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا ، يارسول الله : إنا كنا أحرمنا وقد كان أبو قتادة لم يحرم فرأينا حمر وحش فحمل عليها أبو قتادة ، فعقر منها أتانا فنزلنا ، فأكلنا من لحمها ثم قلنا : أنأكل لحم صيد ونحن محرمون ؟ فحملنا ما بقي من لحمها ، قال : ” أمنكم أحد أمره أن يحمل عليها ، أو أشار إليها ؟ ” قالوا : لا . قال : ” فكلوا ما بقي من لحمها ” . ويجوز له أن يأكل من لحم الصيد الذي لم يصده هو ، أو لم يصد من أجله ، أو لم يشر إليه ، أو يعين عليه . لما رواه المطلب عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ” صيد البر لكم حلال وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم ” رواه أحمد والترمذي وقال : حديث جابر مفسر ، والمطلب لا نعرف له سماعا من جابر . والعمل على هذا عند بعض أهل العلم ، لا يرون بأكل الصيد للمحرم بأسا إذا لم يصده أو يصد من أجله . قال الشافعي : هذا أحسن حديث روي في هذا الباب . وأقيس . وهو قول أحمد وإسحق وبمقتضاه قال مالك أيضا والجمهور . فإن صاده أو صيد له فهو حرام ، سواء ، صيد له بإذنه أم بغير إذنه . أما إن صاده حلال لنفسه ولم يقصد المحرم ، ثم أهدى من لحمه للمحرم ، أو باعه ، لم يحرم عليه . وعن عبد الرحمن بن عثمان التيمي قال : خرجنا مع طلحة بن عبيد الله ، ونحن حرم ، فأهدي له طير ، وطلحة راقد ، فمنا من أكل ، ومنا من تورع . فلما استيقظ طلحة وفق ( 2 ) من أكل ، وقال : أكلناه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . رواه أحمد ومسلم . وما جاء من الاحاديث المانعة من أكل لحم الصيد كحديث الصعب بن
( 1 ) ” الاتان ” : الانثى من الحمير الوحشية . ( 2 ) ” وفق ” : صوب ، أو دعا له بالتوفيق .
جثامة الليثي أنه أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا – بالابواء أو بودان – فرده إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في وجهه ، قال : ” إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم ” . فهي محمولة على ما صاده الحلال من أجل المحرم ، جمعا بين الاحاديث . قال ابن عبد البر : وحجة من ذهب هذا المذهب ، أنه عليه تصح الاحاديث في هذا الباب . وإذا حملت على ذلك لم تضاد ، ولم تختلف ، ولم تتدافع . وعلى هذا يجب تحمل السنن ، ولا يعارض بعضها بعض ما وجد إلى استعمالها سبيل . ورجح ابن القيم هذا المذهب وقال : آثار الصحابة كلها في هذا إنما تدل على هذا التفصيل .
حكم من ارتكب محظورا من محظورات الاحرام : من كان له عذر ، واحتاج إلى ارتكاب محظور من محظورات الاحرام ، غير الوطء ( 1 ) ، كحلق الشعر ، ولبس المخيط اتقاء لحر ، أو برد ، ونحو ذلك ، لزمه أن يذبح شاة ، أو يطعم سنة مساكين ، كل مسكين نصف صاع ، أو يصوم ثلاثة أيام . وهو مخير بين هذه الامور الا ثلاثة . ولا يبطل الحج أو العمرة بارتكاب شئ من المحظورات سوى الجماع . عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب بن عجرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر به زمن الحديبية فقال : ” قد آذاك هوام رأسك ” قال : : نعم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ” احلق ، ثم اذبح شاة نسكا ، أو صم ثلاثة أيام ، أو أطعم ثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين ” . رواه البخاري ، ومسلم ، وأبو داود .
( 1 ) سيأتي حكمه .
وعنه في رواية أخرى ، قال : أصابني هوام في رأسي ، وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية حتى تخوفت على بصري ، فأنزل الله سبحانه وتعالى : ” فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك . ” فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي : ” احلق رأسك ، وصم ثلاثة أيام ، أو أطعم ستة مساكين فرقا ( 1 ) من زبيب . أو انسك شاة ، فحلقت رأسي ثم نسكت ” . وقال الشافعي غير المعذور على المعذور في وجوب الفدية ، وأوجب أبو حنيفة ، الدم ، على غير المعذور إن قدر عليه لا غير ، كما تقدم .
ما جاء في قص بعض الشعر : عن عطاء قال : إذا نتف المحرم ثلاث شعرات فصاعدا ، فعليه دم ( 2 ) . رواه سعيد بن منصور . وروى الشافعي عنه : أنه قال في الشعرة مد ، وفي الشعرتين مدان . وفي الثلاثة فصاعدا دم .
حكم الادهان : قال في المسوى : ان الادهان إذا كانت بزيت خالص ، أو خل خالص ، يجب الدم عند أبي حنيفة في أي عضو كان . وعند الشافعية : في دهن شعر الرأس واللحية بدهن غير مطيب ، الفدية ، ولا فدية في استعماله في سائر البدن . لا حرج على من لبس ، أو تطيب ناسيا ، أو جاهلا : إذا لبس المحرم أو تطيب – جاهلا بالتحريم ، أو ناسيا الاحرام – لم تلزمه الفدية . فعن يعلى بن أمية قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل
( 1 ) ” الفرق ” : مكيال يسع ستة عشر رطلا عراقيا . ( 2 ) والمراد بالدم – هنا – شاة ، وإليه ذهب الشافعي
بالجعرانة ، وعليه جبة ، وهو مصفر لحيته ورأسه . فقال : يارسول الله ، أحرمت بعمرة ، وأنا كما ترى فقال : ” غسل عنك الصفرة ، وانزع عنك الجبة ، وما كنت صانعا في حجك فاصنع في عمرتك . ” رواه الجماعة إلا ابن ماجه . وقال عطاء : إذا تطيب ، أو لبس – جاهلا أو ناسيا – فلا كفارة عليه . رواه البخاري . وهذا بخلاف ما إذا قتل صيدا – ناسيا أو جاهلا بالتحريم – فإنه يجب عليه الجزاء ، لان ضمانه ضمان المال . وضمان المال يستوي فيه العلم والجهل ، السهو والعمد ، مثل ضمان مال الادميين . بطلان الحج بالجماع أفتى علي ، وعمر ، وأبو هريرة رضي الله عنهم رجلا أصاب أهله وهو محرم بالحج ، فقالوا : ينفذان لوجههما ، حتى يقضيا حجمها ، ثم عليهما حج قابل ، والهدي . وقال أبو العباس الطبري – : إذا جامع المحرم قبل التحلل الاول فسد حجه ، سواء أكان ذلك قبل الوقوف بعرفة أو بعده . ويجب عليه أن يمضي في فاسده ، ويجب عليه بدنة ، والقضاء من قابل . فإن كانت المرأة محرمة مطاوعة فعليها المضي في الحج والقضاء من قابل . وكذا الهدي عند أكثر أهل العلم . وذهب بعضهم إلى أن الواجب عليهما هدي واحد ، وهو قول عطاء . قال البغوي في شرح السنة : وهو أشهر قولي الشافعي ، ويكون على الرجل كما قال في كفارة الجماع ، في نهار رمضان . وإذا خرجا في القضاء تفرقا ( 1 ) حيث وقع الجماع حذرا من مثل وقوع الاول . وإذا عجز عن البدنة وجب عليه بقرة ، فإن عجز فسبع من الغنم ، فإن
( 1 ) وجوبا عند أحمد ومالك ، وندبا عند الحنفية والشافعية
عجز قوم البدنة بالدراهم ، والدراهم طعاما ، وتصدق به ، لكل مسكين مد ، فإن لم يستطع صام عن كل مد يوما . وقال أصحاب الرأي : إن جامع قبل الوقوف فسد حجه ، وعليه شاة ، أو سبع بدنة ، وإن جامع بعده لم يفسد حجه ، وعليه بدنة . والقارن إذا أفسد حجه ، يجب عليه ما يجب على المفرد ، ويقضي – قارنا – ولا يسقط عنه هدي القران . قال : والجماع الواقع بعد التحلل الاول لا يفسد الحج . ولا قضاء عليه ، عند أكثر أهل العلم . وذهب بعضهم إلى وجوب القضاء ، وهو قول ابن عمر ، وقول الحسن ، وإبراهيم ، ويجب به الفدية . وتلك الفدية بدنة أو شاة ؟ اختلف فيه . فذهب ابن عباس وعطاء إلى وجوب البدنة وهو قول عكرمة ، وأحد قولي الشافعي ( 1 ) . والقول الاخر : يجب عليه شاة . وهو مذهب مالك . وإذا احتلم المحرم ، أو فكر ، أو نظر فأنزل : فلا شئ عليه عند الشافعية . وقالوا : فيمن لمس بشهوة أو قبل : يلزمه شاة ، سواء أنزل ، أم لم ينزل . وعند ابن عباس رضي الله عنهما : أن عليه دما . قال مجاهد : جاء رجل إلى ابن عباس فقال : إني أحرمت ، فأتتني فلانة في زينتها ، فما ملكت نفسي أن سبقتني شهوتي ؟ فضحك ابن عباس حتى استلقى ، وقال : إنك لشبق ( 2 ) ، لا بأس عليك . . . أهرق دما ، وقد تم حجك . رواه سعيد بن منصور .
( 1 ) واختاره صاحب المبسوط ، والبدائع من الاحناف . ( 2 ) ” الشبق ” : شدة الغلمة والرغبة في النكاح .
جزاء قتل الصيد قال الله تعالى : ( يأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ، ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم ، يحكم به ذوا عدل منكم ، هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ، ليذوق وبال أمره ، عفا الله عما سلف ، ومن عاد فينتقم الله منه ، والله عزيز ذو انتقام ) . قال ابن كثير : الذي عليه الجمهور : أن العامد والناسي سواء في وجوب الجزاء عليه . وقال الزهري : دل الكتاب على العامد ، وجرت السنة على الناسي . ومعنى هذا : أن القرآن دل على وجوب الجزاء على المتعمد وعلى تأثيمه ، بقوله تعالى : ( ليذوق وبال أمره ) الاية . وجاءت السنة من أحكام النبي صلى الله عليه وسلم وأحكام أصحابه بوجوب الجزاء في الخطأ ، كما دل الكتاب عليه في العمد وأيضا ، فإن قتل الصيد إتلاف ، والاتلاف مضمون في العمد وفي النسيان . لكن المتعمد مأثوم ، والمخطئ غير ماوم . وقال في المسوى : ( فجزاء مثل ما قتل من النعم ) . معناه – على قول أبي حنيفة – يجب على من قتل الصيد جزاء هو مثل ما قتل ( أي مماثله في القيمة ) بحكم – بكونه مماثلا في القيمة ، ذوا عدل : إما كائن من النعم ، حال كونه هديا بالغ الكعبة ، وإما كفارة طعام مساكين . ومعناه – على قول الشافعي – يجب على من قتل الصيد جزاء . إما ذلك الجزاء مثل ما قتل في الصورة والشكل ، يكون هذا المماثل من جنس النعم يحتم بمثليته ذوا عدل ، يكون جزاء حال كونه هديا . وإما ذلك الجزاء كفارة ، وإما عدل ذلك صياما . حكومة عمر وما قضى به السلف عن عبد الملك بن قرير عن محمد بن سيرين : أن رجلا جاء إلى عمر ابن الخطاب رضي الله عنه قال : إني أجريت أنا وصاحب لي فرسين إلى ثغرة ثنية ( 1 ) فأصبنا ظبيا ونحن محرمان فما ترى ؟ فقال عمر لرجل إلى جنبه : تعال حتى أحكم أنا وأنت . قال : فحكما عليه بعنز ، فولى الرجل وهو يقول : هذا أمير المؤمنين لا يستطيع أن يحكم في ظبي ، حتى دعا رجلا يحكم معه ، فسمع عمر قول الرجل ، فدعاه فسأله : هل تقرأ سورة المائدة ؟ . قال : لا ، قال ، فهل تعرف هذا الرجل الذي حكم معي ؟ ، قال : لا . فقال عمر : لو أخبرتني أنك تقرأ سورة المائدة لاوجعتك ضربا . ثم قال : إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه : ( يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة ) . وهذا عبد الرحمن بن عوف . وقد قضى السلف في النعامة ببدنة ، وفي حمار الوحش ، وبقر الوحش ، والايل ( 2 ) والاروى ( 3 ) في كل واحد من ذلك ببقرة ، وفي الوبر والحمامة والقمري والحجل ( 4 ) والدبسي ( 5 ) في كل واحدة من هذه بشاة . وفي الضبع بكبش ، وفي الغزال بعنز ، وفي الارنب بعناق ( 6 ) وفي الثعلب بجدي ، وفي اليربوع ( 7 ) بجفرة ( 8 ) .
العمل عند عدم الجزاء روى سعيد بن منصور عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى :
( 1 ) ” ثغرة ثنية ” : أي ثغرة في الطريق . ( 2 ) ” الايل ” : ذكر الوعول . ( 3 ) ” الاروى ” : أنثى الوعل . ( 4 ) ” الحجل ” : الدجاج الوحشي . ( 5 ) ” الدبسي ” : نوع من الطيور . ( 6 ) ” عناق ” : العنز التي زاد ت على أربعة أشهر . ( 7 ) ” اليربوع ” : حيوان على شكل الفأر . ( 8 ) ” جفرة ” : العنز التي بلغت أربعة أشهر .
( فجزاء مثل ما قتل من النعم ) قال : إذا أصاب المحرم صيدا حكم عليه بجزائه . فإن كان عنده جزاء ذبحه وتصدق بلحمه . وإن لم يكن عنده جزاؤه قوم جزاؤه دراهم ثم قومت الدراهم طعاما ، فصام عن كل نصف صاع يوما . فإذا قتل المحرم شيئا من الصيد ، حكم عليه فيه . فإن قتل ظبيا أو نحوه ، فعليه شاة ، تذبح بمكة ، فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين ، فإن لم يجد ، فصيام ثلاثة أيام . فإن قتل أيلا أو نحوه ، فعليه بقرة ، فإن لم يجد ، أطعم عشرين مسكينا ، فإن لم يجد ، صام عشرين يوما . وإن قتل نعامة أو حمار وحش ، أو نحوه ، فعليه بدنة من الابل . فإن لم يجد ، أطعم ثلاثين مسكينا ، فإن لم يجد صام ثلاثين يوما . رواه ابن أبي حاتم ، وابن جرير . وزادوا : الطعام مد . . . مد يشبعهم . كيفية الاطعام والصيام قال مالك : أحسن ما سمعت – في الذي يقتل الصيد ، فيحكم عليه فيه – أن يقوم الصيد الذي أصاب ، فينظر : كم ثمنه من الطعام ؟ فيطعم كل مسكين مدا ، أو يصوم مكان كل مد يوما وينظر : كم عدة المساكين ؟ فإن كانوا عشرة ، صام عشرة أيام ، وإن كانوا عشرين مسكينا ، صام عشرين يوما ، عددهم ما كانوا . وإن كانوا أكثر من ستين مسكينا . الاشتراك في قتل الصيد إذا اشترك جماعة في قتل صيد عامدين لذلك جميعا ، فليس عليهم إلا جزاء واحد . لقول الله تعالى : ( فجزاء مثل ما قتل من النعم ) . وسئل ابن عمر رضي الله عنهما عن جماعة قتلوا ضبعا ، وهم محرمون ؟ فقال : اذبحوا كبشا . فقالوا عن كل إنسان منا ؟ فقال : بل كبشا واحدا عن
جميعكم .
صيد الحرم وقطع شجره يحرم على المحرم والحلال ( 1 ) صيد الحرم ، وتنفيره وقطع شجره الذي لم يستنبته الادميون في العادة ، وقطع الرطب من النبات ، حتى الشوك إلا إلاذخر ( 2 ) والسنا ، فإنه يباح التعرض لهما بالقطع ، والقلع ، والاتلاف ونحو ذلك . لما رواه البخاري ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم – يوم فتح مكة – ” إن هذا البلد حرام ، لا يعضد شوكه ، ولا يختلى خلاه ( 3 ) ولا ينفر صيده ، ولا تلتقط لقطته إلا لمعرف ” فقال العباس : إلا الاذخر ، فإنه لا بد لهم منه ، فإنه للقيون ( 4 ) والبيوت ! فقال : ” إلا الاذخر ” . قال الشوكاني : قال القرطبي : خص الفقهاء الشجر المنهي عنه بما ينبته الله تعالى ، من غير صنيع آدمي . فأما ما ينبت بمعالجة آدمي فاختلف فيه : فالجمهور على الجواز . وقال الشافعي : في الجميع الجزاء ، ورجحه ابن قدامة . واختلفوا في جزاء ما قطع من النوع الاول . فقال مالك : لا جزاء فيه ، بل يأثم . وقال عطاء : يستغفر . وقال أبو حنيفة : يؤخذ بقيمته هدي . وقال الشافعي : في العظيمة ( 5 ) بقرة ، وفيما دونها شاة .
( 1 ) ” الحلال ” : غير المحرم . ( 2 ) ” الاذخر ” : نبت طيب الرائحة . و ” السنا ” : السنامكي . ( 3 ) ” لا يختلي خلاه ” أي لا يقطع الرطب من النبات . ( 4 ) ” القيون ” جمع قين ، وهو الحداد . ( 5 ) العظيمة : أي الشجرة العظيمة .
واستثنى العلماء الانتفاع بما انكسر من الاغصان . وانقطع من الشجر من غير صنيع الادمي ، وبما يسقط من الورق . قال ابن قدامة : وأجمعوا على إباحة أخذ ما استنبته الناس في الحرم ، من بقل ، وزرع ، ومشموم ، وأنه لا بأس برعيه واختلائه . وفى الروضة الندية : ولا يجب على الحلال في صيد حرم مكة ولا شجره شئ ، إلا مجرد الاثم . وأما من كان محرما فعليه الجزاء الذي ذكره الله عزوجل ، إذا قتل صيدا . وليس عليه شئ في شجر مكة ، لعدم ورود دليل تقوم به الحجة . وما يروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ” في الدوحة الكبيرة إذا قطعت من أصلها بقرة ” لم يصح . وما روي عن بعض السلف لا حجة فيه . ثم قال : والحاصل أنه لا ملازمة بين النهي عن قتل الصيد ، وقطع الشجر ، وبين وجوب الجزاء ، أو القيمة . بل النهي يفيد بحقيقته التحريم . والجزاء والقيمة ، لا يجبان إلا بدليل . ولم يرد دليل إلا قول الله تعالى ، ( لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ) الاية . وليس فيها إلا ذكر الجزاء فقط ، فلا يجب غيره .
حدود الحرم المكي
للحرم المكي حدود تحيط بمكة ، وقد نصبت عليها أعلام في جهات خمس . وهذه الاعلام أحجار مرتفعة قدر متر ، منصوبة على جانبي كل طريق . فحده – من جهة الشمال ” التنعيم ” وبينه وبين مكة 6 كيلو مترات . وحده من جهة الجنوب ” أضاه ” بينها وبين مكة 12 كيلومترا . وحده من جهة الشرق ” الجعرانة ” بينها وبين مكة 16 كيلو مترا . وحده من جهة الشمال الشرقي ” وادي نخلة ” بينه وبين مكة 14 كيلو مترا . وحده من جهة الغرب ” الشميسي ” ( 1 ) بينها وبين مكة 15 كيلو مترا . قال محب الدين الطبري : عن الزهري عن عبيدالله بن عبد الله بن عتبة قال : نصب إبراهيم أنصاب الحرم يريه جبريل عليه السلام . ثم لم تحرك حتى كان قصي ، فجددها . ثم لم تحرك حتى كان النبي صلى الله عليه وسلم . فبعث عام الفتح تميم بن أسيد الخزاعي فجددها . ثم لم تحرك حتى كان عمر ، فبعث أربعة من قريش . محرمة بن نوفل ، وسعيد بن يربوع ، وحويطب بن عبد العزى ، وأزهر ابن عبد عوف . فجد دوها ثم جددها معاوية . ثم أمر عبد الملك بتجديدها .
حرمة المدينة
وكما يحرم صيد حرم مكة وشجره ، كذلك يحرم صيد حرم المدينة وشجره . فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” إن إبراهيم حرم مكة ، وإني حرمت المدينة ، ما بين لابتيها ، لا يقطع عضاهها ( 2 ) ولا يصاد صيدها ” . رواه مسلم . وروى أحمد ، وأبو داود ، عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة : ” لا يختلى خلاها ولا ينفر صيدها ، ولا تلتقط لقطتها ، إلا لمن أشاد بها ( 3 ) ، ولا يصلح لرجل أن يحمل فيها السلاح لقتال ، ولا يصلح أن تقطع فيها شجرة ، إلا أن يعلف رجل بعيره ” . وفي الحديث المتفق عليه : ” المدينة حرم ، ما بين عير إلى ثور ” . وفيه عن أبي هريرة : حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين لابتي المدينة ، وجعل اثني عشر ميلا حول المدينة حمى . ” واللابتان ” مثنى لابة . و ” اللابة ” الحرة ، وهي الحجارة السود .
( 1 ) كانت تسمى الحديبية ، وهي التي وقعت عندها بيعة الرضوان . فسميت الغزوة باسمها . ( 2 ) ” عضاهها ” العضاه : واحدتها عضاهة : وهي الفجوة التي فيها الشوك الكثير . ( 3 ) ” أشاد بها ” : رفع صوته بتعريفها
والمدينة تقع بين اللابتين : الشرقية ، والغربية . وقدر الحرم باثني عشر ميلا ، يمتد من عير إلى ثور و ” عير ” جبل عند الميقات ، و ” ثور ” جبل عند أحد ، من جهة الشمال . ورخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لاهل المدينة قطع الشجر لاتخاذه آلة للحرث ، والركوب ، ونحو ذلك مما لا غنى لهم عنه ، وأن يقطعوا من الحشيش ما يحتاجون إليه لعلف دوابهم . روى أحمد ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” حرام ما بين حرتيها ، وحماها كلها ، لا يقطع شجرة إلا أن يعلف منها ” . وهذا بخلاف حرم مكة ، إذ يجد أهله ما يكفيهم . وحرم المدينة لا يجد أهله ما يستغنون به عنه . وليس في قتل صيد الحرم المدني ، ولا قطع شجره جزاء ، وفيه الاثم . روى البخاري عن أنس رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” المدينة حرم ، من كذا إلى كذا ، لا يقطع شجرها ، ولا يحدث فيها حدث ، من أحدث فيها حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ” . ومن وجد شيئا في شجره مقطوعا حل له أن يأخذه . فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه : أنه ركب إلى قصره بالعقيق ، فوجد عبدا يقطع شجرا أو يخبطه ، فسلبه . فلما رجع سعد جاءه أهل العبد فكلموه أن يرد على غلامهم ما أخذ منه . فقال : معاذ الله ، أن أرد شيئا نفلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبى أن يرد عليهم . رواه مسلم . وروى أبو داود ، والحاكم ، وصححه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” من رأيتموه يصيد فيه شيئا فلكم سلبه ” . هل فيه حرم آخر ؟ قال ابن تيمية : وليس في الدنيا حرم ، لا بيت المقدس ، ولا غيره ، إلا هذان الحرمان ، ولا يسمى غيرهما ” حرما ” كما يسمي الجهال فيقولون : حرم المقدس ، وحرم الخليل ، فإن هذين وغيرهما ، ليسا بحرم ، باتفاق المسلمين . والحرم المجمع عليه : حرم مكة . وأما المدينة فلها حرم أيضا عند الجمهور كما استفاضت بذلك الاحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم . ولم يتنازع المسلمون في حرم ثالث ، إلا وجاء ، وهو واد بالطائف . وهو عند بعضهم ( 1 ) حرم ، وعند الجمهور ليس بحرم . تفضيل مكة على المدينة ذهب جمهور العلماء : إلى أن مكة أفضل من المدينة . لما رواه أحمد ، وابن ماجه والترمذي ، وصححه ، عن عبد الله بن عدي ابن الحمراء ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ” والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت ” . وروى الترمذي ، وصححه عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكة : ” ما أطيبك من بلد ، وأحبك إلي ، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك ” . دخول مكة بغير احرام يجوز دخول مكة بغير إحرام ، لمن لم يرد حجا ولا عمرة ، سواء أكان دخوله لحاجة تتكرر – كالحطاب والحشاش والسقاء والصياد وغيرهم – أم لم تتكرر ، كالتاجر والزائر ، وغيرهما ، وسواء أكان آمنا أم خائفا . وهذا أصح القولين للشافعي ، وبه يفتي أصحابه . وفي حديث مسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعليه عمامة سوداء ، بغير إحرام .
( 1 ) وهو الشافعي وقد رجح الشوكاني رأيه .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما : أنه رجع من بعض الطريق فدخل مكة غير محرم . وعن ابن شهاب قال : لا بأس بدخول مكة بغير إحرام . وقال ابن حزم : دخول مكة بلا إحرام جائز . لان النبي صلى الله عليه وسلم إنما جعل المواقيت لمن مر بهن ، يريد حجا أو عمرة . ولم يجعلها لمن لم يرد حجا ولا عمرة . فلم يأمر الله تعالى قط ، ولا رسوله عليه الصلاة والسلام ، بأن لا يدخل مكة إلا بإحرام . فهذا إلزام ما لم يأت في الشرع إلزامه .
ما يستحب لدخول مكة والبيت الحرام يستحب لدخول مكة ما يأتي :
1 – الاغتسال : فعن ابن عمر رضى الله عنهما أنه كان يغتسل لدخول مكة .
2 – المبيت بذي طوى في جهة الزاهر . فقد بات رسول الله صلى الله عليه وسلم بها . قال نافع : وكان ابن عمر يفعله ، رواه البخاري ، ومسلم .
3 – أن يدخلها من الثنية العليا ( ثنية كداء ) . فقد دخلها النبي صلى الله عليه وسلم من جهة المعلاة . فمن تيسر له ذلك فعله ، وإلا فعل ما يلائم حالته ، ولا شئ عليه .
4 – أن يبادر إلى البيت بعد أن يدع أمتعته في مكان أمين ، ويدخل من باب بني شيبة – باب السلام – ويقول في خشوع وضراعة : ” أعوذ بالله العظيم ، وبوجهه الكريم ، وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم ، بسم الله ، اللهم صل على محمد وآله وسلم ، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك ” .
5 – إذا وقع نظره على البيت ، رفع يديه وقال : ” اللهم زد هذا البيت تشريفا ، وتعظيما ، وتكريما ، ومهابة ، وزد من شرفه وكرمه ممن حجه ، أو اعتمره ، تشريفا وتكريما وتعظيما ، وبرا ” ( 1 ) . ” اللهم أنت السلام ، ومنك السلام ، فحينا ربنا بالسلام ” .
6 – ثم يقصد إلى الحجر الاسود ، فيقبله بدون صوت . فإن لم يتمكن استلمه بيده وقبله . فإن عجز عن ذلك ، أشار إليه بيده .
7 – ثم يقف بحذائه ويشرع في الطواف .
8 – ولا يصلي تحية المسجد ، فإن تحيته الطواف به ، إلا إذا كانت الصلاة المكتوبة مقامة ، فيصليها مع الامام . لقوله صلى الله عليه وسلم : ” إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة ” . وكذلك إذا خاف فوات الوقت ، يبدأ به فيصليه .
الطواف كيفيته :
1 – يبدأ الطائف طوافه مضطبعا محاذيا الحجر الاسود مقبلا له أو مستلما أو مشيرا إليه ، كيفما أمكنه ، جاعلا البيت عن يساره ، قائلا : ” بسم الله ، والله أكبر ، اللهم إيمانا بك ، وتصديقا بكتابك ، ووفاء بعهدك ، واتباعا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ” .
2 – فإذا أخذ في الطواف ، استحب له أن يرمل في الاشواط الثلاثة الاولى ، فيسرع في المشي . ويقارب الخطا ، مقتربا من الكعبة . ويمشي مشيا عاديا في الاشواط الاربعة الباقية . فإذا لم يمكنه الرمل ، أو لم يستطع القرب من البيت لكثرة الطائفين ، ومزاحمة الناس له ، طاف حسبما تيسر له .
( 1 ) رواه الشافعي مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، قاله عمر .
ويستحب أن يستلم الركن اليماني . ويقبل الحجر الاسود أو يستلمه في كل شوط من الاشواط السبعة .
3 – ويستحب له أن يكثر من الذكر والدعاء ، ويتخير منهما ما ينشرح له صدره ، دون أن يتقيد بشئ أو يردد ما يقوله المطوفون . فليس في ذلك ذكر محدود ، الزنا الشارع به . وما يقوله الناس : من أذكار وأدعية في الشوط الاول والثاني ، وهكذا ، فليس له أصل . ولم يحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شئ من ذلك ، فللطائف أن يدعو لنفسه ، ولاخوانه بما شاء ، من خيري الدنيا والاخرة . واليك بيان ما جاء في ذلك من الادعية :
1 – إذا استقبل الحجر قال : ” اللهم إيمانا بك ، وتصديقا بكتابك ، ووفاء بعهدك ، واتباعا لسنة نبيك ، بسم الله والله أكبر ” ( 1 ) .
2 – فإذا أخذ في الطواف قال : ” سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ” . رواه ابن ماجه .
3 – فإذا انتهى إلى الركن اليماني دعا فقال : ” ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة وقنا عذاب النار ” . رواه أبو داود ، والشافعي عن النبي صلى الله عليه وسلم . 4 – قال الشافعي : وأحب – كلما حاذى الحجر الاسود – أن يكبر ، وأن يقول في رمله : ” اللهم اجعله حجا مبرورا ، وذنبا مغفورا ، وسعيا مشكورا ” . ويقول في الطواف عند كل شوط : ” رب اغفر وارحم ، واعف عما تعلم وأنت الاعز الاكرم ، اللهم آتنا في الدنيا حسنة ، وفي الاخرة حسنة ، وقنا عذاب النار ” . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أنه كان يقول بين الركنين : ” اللهم قنعني بما رزقتني ، وبارك لي فيه ، واخلف علي كل غائبة بخير ” ( 2 ) . رواه سعيد بن منصور ، والحاكم .
( 1 ) هذا الدعاء روي مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم . ( 2 ) ” أخلف علي ” اي اجعل لي عوضا حاضرا عما فاتني .
قراءة القرآن للطائف : لا بأس للطائف بقراءة القرآن أثناء طوافه . لان الطواف إنما شرع من أجل ذكر الله تعالى ، والقرآن ذكر . فعن عائشة رضي الله عنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” إنما جعل الطواف بالبيت ، وبين الصفا والمروة ورمي الجمار ، لاقامة ذكر الله عزوجل ” . رواه أبو داود والترمذي . وقال : حسن صحيح . فضل الطواف روى البيهقي – بإسناد حسن – عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” ينزل الله كل يوم على حجاج بيته الحرام ، عشرين ومائة رحمة : ستين للطائفين وأربعين للمصلين ، وعشرين للناظرين “
5 – فإذا فرغ من الاشواط السبعة صلى ركعتين عند مقام إبراهيم ، تاليا قول الله تعالى : ” واتخذوا من مقام ابراهيم مصلى ” . وبهذا ينتهي الطواف . ثم إن كان الطائف مفردا سمى هذا الطواف طواف القدوم . وطواف التحية ، وطواف الدخول . وهو ليس بركن . ولا واجب . وإن كان قارنا ، أو متمتعا ، كان هذا الطواف طواف العمرة ، ويجزئ عن طواف التحية والقدوم . وعليه أن يمضي في استكمال عمرته . فيسعى بين الصفا والمروة .
أنواع الطواف ( 1 ) طواف القدوم ( 2 ) وطواف الافاضة ( 3 ) وطواف الوداع ، وسيأتي الكلام عليها في مواضعها ( 4 ) وطواف التطوع . وينبغي للحاج أن يغتنم فرصة وجوده بمكة ويكثر من طواف التطوع ، والصلاة في المسجد الحرام . فإن الصلاة فيه خير من مائة الف ، فيما سواه من المساجد . وليس في طواف التطوع رمل ولا اضطباع . والسنة أن يحيي المسجد الحرام بالطواف حوله كلما دخله ، بخلاف المساجد
الاخرى ، فإن تحيتها الصلاة فيها .
وللطواف شروط وسنن وآداب نذكرها فيما يلي :
شروط الطواف 1 – الطهارة من الحدث الاصغر والاكبر والنجاسة ( 1 ) لما رواه ابن عباس رضي الله عنهما ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” الطواف صلاة . . . إلا أن الله تعالى أحل فيه الكلام فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير ” . رواه الترمذي والدار قطني ، وصححه الحاكم وابن خزيمة وابن السكن . وعن عائشة رضي الله عنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها وهي تبكي ، فقال : ” أنفست ؟ ( 2 ) ” – يعني الحيضة – قالت ، نعم . قال : ” إن هذا شئ كتبه الله على بنات آدم ، فاقضي ما يقضي الحاج ، غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تغتسلي ” . رواه مسلم . وعنها قالت : إن أول شئ بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم – حين قدم مكة – أنه توضأ ثم طاف بالبيت . رواه الشيخان . ومن كان به نجاسة ، لا يمكن إزالتها ، كمن به سلس بول وكالمستحاضة التي لا يرقا دمها ، فإنه يطوف ولا شئ عليه باتفاق . روى مالك : ان عبد الله بن عمر جاءته امرأة تستفتيه ، فقالت : إني أقبلت أريد أن أطوف بالبيت ، حتى إذا كنت عند باب المسجد هرقت الدماء ،
( 1 ) يرى الحنفية أن الطهارة من الحدث ليست شرطا وإنما هي واجب يجبر بالدم . فلو كان محدثا حدثا أصغر وطاف صح طوافه ولزمه شاة . وإن طاف جنبا أو حائضا ، صح ولزمه بدنة ، ويعيده ما دام بمكة . وأما الطهارة من النجاسة في الثوب أو البدن ، فهي سنة عندهم فقط . ( 2 ) ” أنفست ” أي أحضت .
فرجعت ، حتى ذهب ذلك عني ، ثم أقبلت ، حتي إذا كنت عند باب المسجد هرقت الدماء ، فرجعت ، حتى ذهب ذلك عني ، ثم أقبلت ، حتى إذا كنت عند باب المسجد ، هرقت الدماء . فقال عبد الله بن عمر : إنما ذلك ركضة من الشيطان ، فاغتسلي ، ثم استثفري بثوب ، ثم طوفي .
2 – ستر العورة : ( 1 ) لحديث أبي هريرة قال : بعثني أبو بكر الصديق في الحجة التي أمره عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حجة الوداع ، في رهط يؤذنون في الناس يوم النحر : ” لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ” . رواه الشيخان . 3 – أن يكون سبعة أشواط كاملة . فلو ترك خطوة واحدة ، في أي شوط ، لا يحسب طوافه . فإن شك بنى على الاقل ، حتى يتقن السبع . وإن شك بعد الفراغ من الطواف فلا يلزمه شئ .
4 – أن يبدأ الطواف من الحجر الاسود ، وينتهي إليه .
5 – أن يكون البيت عن يسار الطائف . فلو طاف ، وكان البيت عن يمينه ، لا يصح الطواف . لقول جابر رضي الله عنه : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة أتى الحجر الاسود فاستلمه ، تم مشى عن يمينه فرمل ( 2 ) ثلاثا ومشى أربعا ( 3 ) . رواه مسلم .
6 – أن يكون الطواف خارج البيت . فلو طاف في الحجر لا يصح طوافه ، فإن الحجر ( 4 ) ، والشاذ روان ( 5 ) من البيت .
( 1 ) عند الاحناف واجب ، فمن طاف عريانا صح طوافه وعليه الاعادة إلا خرج من مكة ، فإنه يلزم دم . ( 2 ) ” الرمل ” : الا سراع مع هز الكتفين . ( 3 ) عند الاحناف أن ركن الطواف أربعة أشواط ، والثلاثة الباقية واجب يجبر بالدم . ( 4 ) الحجر : هو حجر إسماعيل ، ويقع شمال الكعبة ، يحوطه سور على شكل نصف دائرة وليس الحجر كله من البيت ، بل الجزء الذي هو من البيت قدره ستة أذرع : نحو ثلاثة أمتار . ( 5 ) ” الشاذروان ” البناء الملاصق لاساس الكعبة الذي توضع به حلق الكسوة .
والله أمر بالطواف بالبيت ، لا في البيت ، فقال : ( وليطوفوا بالبيت العتيق ) . ويستحب القرب من البيت ، إن تيسر .
7 – موالاة السعي : عند مالك وأحمد . ولا يضر التفريق اليسير ، لغير عذر ، ولا التفريق الكثير ، لعذر . وذهبت الحنفية ، والشافعية : إلى أن الموالاة سنة . فلو فرق بين أجزاء الطواف تفريقا كثيرا ، بغير عذر ، لا يبطل . ويبني على ما مضى من طوافه . روى سعيد بن منصور ، عن حميد بن زيد قال : رأيت عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، طاف بالبيت ثلاثة أطواف أو أربعة ، ثم جلس يستريح ، وغلام له يروح عليه ، فقام فبنى على ما مضى من طوافه . وعند الشافعية والحنفية : لو أحدث في الطواف ، توضأ وبنى ولا يجب الاستئناف ، وإن طال الفصل . وعن ابن عمر رضي الله عنهما : أنه كان يطوف بالبيت ، فأقيمت الصلاة فصلى مع القوم ، ثم قام ، فبنى على ما مضى من طوافه . وعن عطاء : أنه كان يقول – في الرجل يطوف بعض طوافه ، ثم تحضر الجنازة – قال : يخرج يصلي عليها ، ثم يرجع فيقضي ما بقي من طوافه .
سنن الطواف للطواف سنن نذكرها فيما يلي : 1 – استقبال الحجر الاسود ، عند بدء الطواف مع التكبير والتهليل ، ورفع اليدين : كرفعهما في الصلاة ، واستلامه بهما بوضعهما عليه ، وتقبيله بدون صوت ، ووضع الخد عليه ، إن أمكن ذلك ، وإلا مسه بيده وقبلها أو مسه بشئ معه وقبله ، أو أشار إليه بعصا ونحوها . وقد جاء في ذلك أحاديث ، واليك بعضها : قال ابن عمر رضي الله عنهما : استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجر واستلمه ، ثم وضع شفيته يبكي طويلا ، فإذا عمر يبكي طويلا . فقال : ” يا عمر ، هنا تسكب العبرات ( 1 ) ” . رواه الحاكم ، وقال : صحيح الاسناد . وعن ابن عباس : ان عمر أكب على الركن ( 2 ) فقال : إني لاعمل أنك حجر ، ولو لم أر حبيبي صلى الله عليه وسلم قبلك واستلمك ما استلمتك ولا قبلتك : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) . رواه أحمد ، وغيره ، بألفاظ مختلفة متقاربة . وقال نافع : رأيت ابن عمر رضي الله عنهما استلم الحجر بيده ثم قبل يده وقال : ما تركته منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله . رواه البخاري ومسلم . وقال سويد بن غفلة : رأيت عمر رضي الله عنه قبل الحجر ، والتزمه وقال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بك حفيا ( 3 ) ” رواه مسلم . وعن ابن عمر رضي الله عنهما ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي البيت ، فيستلم الحجر ويقول : ” بسم الله والله أكبر ” . رواه أحمد . وروى مسلم عن أبي الطفيل قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت ويستلم بمحجن معه ويقبل المحجن . وروى البخاري ، ومسلم ، وأبو داود عن عمر رضي الله عنه أنه جاء إلى الحجر فقبله . فقال : إني أعلم أنك حجر لا تضر ، ولا تنفع ، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك . قال الخطابي : فيه من العلم ، أن متابعة السنن واجبة وإن لم يوقف لها على علل معلومة ، وأسباب معقولة . وأن أعيانها حجة على من بلغته وإن لم يفقه معانيها . إلا أنه معلوم في الجملة أن تقبيله الحجر ، إنما هو إكرام له ، وإعظام لحقه ، وتبرك به . وقد فضل الله بعض الاحجار على بعض ، كما فضل بعض البقاع والبلدان ، وكما فضل بعض الليالي والايام والشهور .
( 1 ) ” العبرات ” : أي الدموع . ( 2 ) ” الركن ” : المراد به هنا الحجر الاسود . ( 3 ) ” حفيا ” : أي مهتما ومعنيا
وباب هذا كله التسليم . وهذا وقد روى أمر سائغ في العقول جار فيها ، غير ممتنع ولا مستنكر . في بعض الاحاديث : ” الحجر يمين الله في الارض ” . والمعنى أن من صافحه في الارض كان له عند الله عهد . فكان كالعهد الذي تعقده الملوك بالمصافحة ، لمن يريد موالاته ، والاختصاص به . وكما يصفق على أيدي الملوك للبيعة . وكذلك تقبيل اليد من الخدم للسادة والكبراء . فهذا كالتمثيل بذلك والتشبيه به . وقال المهلب : حديث عمر يرد على من قال : إن الحجر يمين الله في الارض ، يصافح بها عباده . ومعاذ الله ، أن تكون لله جارحة ، وإنما شرع تقبيله اختبارا ، ليعلم – بالمشاهدة – طاعة من يطيع . وذلك شبيه بقصة إبليس حيث أمر بالسجود لادم . هذا ، ولا يعلم – على وجه اليقين – أنه بقي حجر من أحجار الكعبة . من وضع إبراهيم إلا الحجر الاسود . المزاحمة على الحجر ولا بأس في المزاحمة على الحجر على أن لا يؤذي أحدا . فقد كان ابن عمر رضي الله عنهما يزاحم حتى يدمى أنفه . وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه : ” يا أبا حفص إنك رجل قوي ، فلا تزاحم على الركن ، فإنك تؤذي الضعيف ، ولكن إن وجدت خلوة فاستلم ، وإلا فكبر وامض ” . رواه الشافعي في سننه . ( 1 ) الاضطباع : فعن ابن عباس رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من الجعرانة فاضطبعوا أرديتهم تحت آباطهم ، وقذفوها على عواتقهم اليسرى . رواه أحمد وأبو داود .
( 1 ) ” الاضطباع ” هو جعل وسط الرداء تحت الابط الايمن ، وطرفيه على الكتف الايسر .
وهذا مذهب الجمهور . وقالوا في حكمته : إنه يعين على الرمل في الطواف . وقال مالك : لا يستحب ، لانه لم يعرف ولم ير أحدا يفعله ولا يستحب في صلاة الطواف اتفاقا .
2 – الرمل ( 1 ) فعن ابن عمر رضي الله عنهما : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل من الحجر الاسود إلى الحجر الاسود ثلاثا ، ومشى أربعا . رواه أحمد ، ومسلم . ولو تركه في الثلاث الاول لم يقضه في الاربعة الاخيرة . والاضطباع والرمل خاص بالرجال في طواف العمرة ، وفي كل طواف يعقبه سعي في الحج . وعند الشافعية : إذا اضطبع ورمل في طواف القدوم ثم سعى بعده ، لم يعد الاضطباع والرمل في طواف الافاضة . وإن لم يسع بعده ، وأخر السعي إلى ما بعد طواف الزيارة اضطبع ورمل في طواف الزيارة . أما النساء ، فلا اضطباع عليهن – لوجوب ستزهن – ولا رمل ، لقول ابن عمر رضي الله عنهما : ليس على النساء سعي ( 2 ) بالبيت ، ولا بين الصفا والمروة . رواه البيهقي . حكمة الرمل : والحكمة فيه ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وقد وهنتهم ( 3 ) حمى يثرب ( 4 ) فقال المشركون : إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم الحمى ، ولقوا منها شرا ، فأطلع الله سبحانه نبيه
( 1 ) ” الرمل ” : الاسراع في المشي مع هز الكتفين وتقارب الخطا . وقد شرع إظهارا للقوة والنشاط . ( 2 ) أي رمل . ( 3 ) ” وهنتهم ” : أي أضعفتهم . ( 4 ) ” يثرب ” أي المدينة المنورة .
صلى الله عليه وسلم على ما قالوه ، فأمرهم أن يرملوا الاشواط الثلاثة ، وأن يمشوا بين الركنين ، فلما رأوهم رملوا ، قالوا : هؤلاء الذين ذكرتم أن الحمى قد وهنتهم ؟ هؤلاء أجلد منا ( 1 ) . قال ابن عباس رضي الله عنهما : ولم يأمرهم أن يرملوا الاشواط كلها إلا إبقاء ( 2 ) عليهم . رواه البخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، واللفظ له . ولقد بدا لعمر رضي الله عنه أن يدع الرمل بعد ما انتهت الحكمة منه ، ومكن الله للمسلمين في الارض ، إلا أنه رأى إبقاءه على ما كان عليه في العهد النبوي . لتبقى هذه الصورة ماثلة للاجيال بعده . قال محب الدين الطبري : وقد يحدث شئ من أمر الدين لسبب ثم يزول السبب ولا يزول حكمه . فعن زيد بن أسلم . عن أبيه قال : سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : فيم الرملان اليوم ، والكشف عن المناكب ؟ وقد أطأ ( 3 ) الله الاسلام ، ونفى الكفر وأهله ، ومع ذلك لا ندع شيئا كنا نفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
3 – استلام ( 4 ) الركن اليماني : لقول ابن عمر رضي الله عنهما : لم أر النبي صلى الله عليه وسلم يمس من الاركان إلا اليمانيين . وقال : ما تركت استلام هذين الركنين – اليماني ، والحجر الاسود – منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمهما ، في شدة ، ولا في رخاء . رواهما البخاري ، ومسلم . وإنما يستلم الطائف هذين الركنين ، لما فيهما من فضيلة ، ليست لغيرهما . ففي الركن الاسود ميزتان ، إحداهما : أنه عل قواعد إبراهيم عليه السلام .
( 1 ) ” أجلد ” أي أقوى وأشد . ( 2 ) ” إبقاء عليهم ” : هذا تعليل الرمل في جميع الاشواط حتى لا يجهدوا أو يصابوا بضرر . ( 3 ) ” أطأ ” : أي ثبت . ( 4 ) ” الاستلام ” : المسح باليد .
وثانيتهما : أن فيه الحجر الاسود الذي جعل مبدءا للطواف ومنتهى له . وأما الركن اليماني المقابل له ، فقد وضع أيضا على قواعد إبراهيم عليه السلام . روى أبو داود عن ابن عمر رضى الله عنهما أنه أخبر بقول عائشة رضي الله عنها : ” إن الحجر بعضه من البيت ” . فقال ابن عمر : والله إني لاظن عائشة إن كانت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إني لاظن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يترك استلامهما ، إلا أنهما ليسا على قواعد البيت ، ولا طاف الناس وراء الحجر إلا لذلك . والامة متفقة على استحباب استلام الركنين اليمانيين ، وعلى أنه لا يستلم الطائف الركنين الاخرين . وروى ابن حبان في صحيحه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” الحجر والركن اليماني يحط الخطايا حطا ” .
صلاة ركعتين بعد الطواف ( 1 ) يسن للطائف صلاة ركعتين بعد كل طواف ( 2 ) ، عند مقام إبراهيم ، أو في مكان من المسجد . فعن جابر رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة ، طاف بالبيت سبعا ، وأتى المقام فقرأ : ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) . فصلى خلف المقام ثم أتى الحجر فاستلمه . رواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح . والسنة فيهما قراءة سورة ” الكافرون ” بعد ” الفاتحة ” في الركعة الاولى ، وسورة ” الاخلاص ” في الركعة الثانية . فقد ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما رواه مسلم ، وغيره . وتؤديان في جميع الاوقات ، حتى أوقات النهي .
( 1 ) وهي واجبة عند أبي حنيفة . ( 2 ) أي سواء كان الطواف فرضا أو نقلا .
فعن جبير بن مطعم : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت ، وصلى أية ساعة شاء ، من ليل ، أو نهار ” . رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وصححه . وهذا مذهب الشافعي ، وأحمد . وكما أن الصلاة بعد الطواف تسن في المسجد ، فإنها تجوز خارجه . فقد روى البخاري عن أم سلمة رضي الله عنها : أنها طافت راكبة ، فلم تصل حتى خرجت . وروى مالك عن عمر رضي الله عنه ، أنه صلاهما بذي طوى . وقال البخاري : وصلى عمر رضي الله عنه خارج الحرم . ولو صلى المكتوبة بعد الطواف أجزأته عن الركعتين ، وهو الصحيح عند الشافعية والمشهور من مذهب أحمد . وقال مالك والاحناف : لا يقوم غير الركعتين مقامهما . المرور أمام المصلي في الحرم المكي يجوز أن يصلي المصلي في المسجد الحرام ، والناس يمرون أمامه ، رجالا ونساء ، بدون كراهة ، وهذا من خصائص المسجد الحرام . فعن كثير بن كثير بن المطلب بن وداعة ، عن بعض أهله ، عن جده : أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي مما يلي بني سهم ، والناس يمرون بين يديه وليس بينهما سترة . قال سفيان بن عيينة : ” ليس بينه وبين الكعبة سترة ” . رواه أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه . طواف الرجال مع النساء روى البخاري عن ابن جريج قال : أخبرني عطاء إذ منع ابن هشام النساء الطواف مع الرجال ، قال : كيف تمنعهن ، وقد طاف نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجال ؟ قال : قلت : أبعد الحجاب أقبله ؟ قال : أي لعمري لقد أدركته بعد الحجاب . قلت : كيف يخالطن الرجال ؟ قال : لم يكن يخالطن الرجال ، كانت عائشة رضي الله عنها تطوف حجرة ( 1 ) من الرجال لا تخالطهم . فقالت امرأة : انطلقي نستلم يا أم المؤمنين . قالت : انطلقي . . . عنك ، وأبت . فكن يخرجن متنكرات بالليل فيطفن مع الرجال ، ولكنهن كن إذا دخلن البيت ، قمن ، حتى يدخلن وأخرج الرجال . وللمرأة أن تستلم الحجر عند الخلوة ، والبعد عن الرجال . فعن عائشة رضي الله عنها : أنها قالت لامرأة : لا تزاحمي على الحجر ، إن رأيت خلوة فاستلمي ، وإن رأيت زحاما فكبري وهللي إذا حاذيت به ، ولا تؤذي أحدا .
ركوب الطائف يجوز للطائف الركوب ، وإن كان قادرا على المشي ، إذا وجد سبب يدعو إلى الركوب . فعن ابن عباس رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن ( 2 ) . رواه البخاري ، ومسلم . وعن جابر رضي الله عنه قال : طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على راحلته بالبيت ، وبالصفا والمروة ، ليراه الناس ، وليشرف ، وليسألوه ، فإن الناس غشوه ( 3 ) .
كراهة طواف المجذوم مع الطائفين روى مالك عن ابن أبي مليكة : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى امرأة مجذومة ، تطوف بالبيت ، فقال لها : يا أمة الله ، لا تؤذى الناس ، لو
( 1 ) ” حجرة ” أي ناحية منفردة . ( 2 ) ” المحجن ” : عود معقود الرأس يكون مع الراكب يحرك به راحلته . ( 3 ) ” غشوه ” : ازدحموا عليه .
جلست في بيتك ! ؟ ففعلت . ومر بها رجل بعد ذلك فقال لها : إن الذي نهاك قد مات ، فاخرجي . فقالت : ما كنت لاطيعه حيا وأعصيه ميتا .
استحباب الشرب من ماء زمزم : وإذا فرغ الطائف من طوافه ، وصلى ركعتيه عند المقام ، استحب له أن يشرب من ماء زمزم . ثبت في الصحيحين : أن رسول صلى الله عليه وسلم ، شرب من ماء زمزم ، وأنه قال : ” إنها مباركة . إنها طعام طعم وشفاء سقم ( 1 ) ” . وأن جبريل عليه السلام غسل قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم بمائها ليلة الاسراء . وروى الطبراني في الكبير ، وابن حبان عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” خير ماء على وجه الارض ماء زمزم ، فيه طعام الطعم ، وشفاء السقم ” . الحديث . قال المنذري : ورواته ثقات . آداب الشرب منه : يسن أن ينوي الشارب عند شربه الشفاء ونحوه ، مما هو خير في الدين والدنيا . فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” ماء زمزم لما شرب له ” . وعن سويد بن سعيد قال : رأيت عبد الله بن المبارك بمكة أتى ماء زمزم واستسقى منه شربة ، ثم استقبل الكعبة ، فقال : اللهم إن ابن أبي الموالي حدثنا عن محمد بن المنكدر ، عن جابر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” ماء زمزم لما شرب له ، وهذا أشربه لعطش يوم القيامة ، ثم شرب ” . رواه أحمد بسند صحيح ، والبيهقي . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” ماء زمزم لما شرب له ، إن شرته تستشفي شفاك الله ، وإن شربته لشبعك ، الله
( 1 ) الزيادة لابي داود الطيالسي . وقيل هي في إحدى نسخ مسلم . ومعنى ” طعام طعم ” : أي أنه يشبع من شربه
أشبعك الله ، وإن شربته لقطع ظمئك قطعه الله ، وهي هزمة ( 1 ) جبرائيل وسقيا ( 2 ) الله إسماعيل ” . رواه الدار قطني ، والحكم ، وزاد : ” وإن شربته مستعيذا ، أعاذك الله ” . ويستحب أن يكون الشرب على ثلاثة أنفاس ، وأن يستقبل به القبلة ، ويتضلع منه ( 3 ) ، ويحمد الله ، ويدعو بما دعا به ابن عباس . فعن أبي مليكة قال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال : من أين جئت ؟ . . قال : شربت من ماء زمزم . قال ابن عباس : أشربت منها كما ينبغي ؟ قال : وكيف ذاك يا ابن عباس ؟ قال : إذا شربت منها فاستقبل القبلة ، واذكر الله ، وتنفس ثلاثا ، وتضلع منها ، فإذا فرغت فاحمد الله . فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” آية ما بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضلعون من زمزم ” . رواه ابن ماجه ، والدار قطني والحاكم . وكان ابن عباس رضي الله عنهما إذا شربت من ماء زمزم قال : اللهم إني أسألك علما نافعا ، ورزقا واسعا ، وشفاء من كل داء .
أصل بئر زمزم : روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن ” هاجر ” لما أشرفت على على المروة حين أصابها وولدها العطش سمعت صوتا ، فقالت : صه – تريد نفسها – ثم تسمعت ، فسمعت أيضا ، فقالت : قد اسمعت ، إن كان عندك غواث ، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه ، أو قال : بجناحه ، حتى ظهر الماء ، فجعلت تحوضه ، وتقول بيدها هكذا – تغترف من الماء في سقائها – وهو يفور بعد ما تغترف . قال ابن عباس رضي الله عنهما ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” رحم الله أم إسماعيل ، لو تركت زمزم – أو قال : لو لم تغترف من الماء – لكانت زمزم عينا معينا ” . قال : فشربت ، وأرضعت ولدها ، فقال لها الملك :
( 1 ) ” هزمة ” : أي حفرة . ( 2 ) أي أخرجه الله لسقي إسماعيل في اول الامر . ( 3 ) ” تضلع ” : أي امتلا شبعا وريا حتى بلغ الماء أضلاعه .
لا تخافوا الضيعة ، فإن هاهنا بيت الله ، يبتني هذا الغلام وأبوه ، وإن الله لا يضيع أهله ، وكان البيت مثل الرابية ، تأتيه السيول ، فتأخذ عن يمينه وشماله .
استحباب الدعاء عند الملتزم : وبعد الشرب من ماء زمزم ، يستحب الدعاء عند الملتزم . فقد روى البيهقي عن ابن عباس ، أنه كان يلزم ما بين الركن والباب ، وكان يقول : ما بين الركن والباب يدعى الملتزم ، لا يلزم ما بينهما أحد يسأل الله شيئا إلا أعطاه الله إياه . وروي عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلزق وجهه وصدره بالملتزم . وقيل : إن الحطيم هوالملتزم . ويرى البخاري أن الحطيم الحجر نفسه . واحتج عليه بحديث الاسراء فقال : بينا أنا نائم في الحطيم ، وربما قال في الحجر . قال : وهو حطيم : بمعنى محطوم ، كفتيل ، بمعنى مقتول . استحباب دخول الكعبة وحجر إسماعيل : روى البخاري ، ومسلم ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة ( 1 ) ، هو وأسامة بن زيد ، وعثمان ابن طلحة ، فأغلقوا عليهم ، فلما فتحوا ، أخبرني بلال : ان رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في جوف الكعبة ، بين العمودين اليمانيين . وقد استدل العلماء بهذا على أن دخول الكعبة ، والصلاة فيها سنة . وقالوا : وهو وإن كان سنة ، إلا أنه ليس من مناسك الحج ، لقول ابن عباس رضي الله عنهما : أيها الناس إن دخولكم البيت ليس من حجكم في شئ . رواه الحاكم بسند صحيح .
ومن لم يتمكن من دخول الكعبة ، يستحب له الدخول في حجر إسماعيل والصلاة فيه فإن جزءا منه من الكعبة . روى أحمد بسند جيد ، عن سعيد بن جبير ، عن عائشة قالت : يا رسول الله ، كل أهلك قد دخل البيت غيري ! فقال : ” أرسلي إلى شيبة ( 1 ) فيفتح لك الباب ” ، فأرسلت إليه . فقال شيبة : ما استطعنا فتحه في جاهلية ، ولا إسلام ، بليل . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ” صلي في الحجر فإن قومك استقصروا ( 2 ) عن بناء البيت ، حين بنوه ” .
السعي بين الصفا والمروة أصل مشروعيته : روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : جاء إبراهيم عليه السلام ب ” هاجر ” وبابنها ” إسماعيل ” عليه السلام ، وهي ترضعه ، حتى وضعهما عند البيت ، عند دوحة فوق زمزم ، فوضعهما تحتها وليس بمكة يومئذ من أحد ، وليس بها ماء ، ووضع عندهما جرابا فيه تمر ، وسقاء فيه ماء ، ثم قفى إبراهيم منطلقا ، فتبعته أم إسماعيل ، فقالت : يا إبراهيم ، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس به أنيس ولا شئ ؟ فقالت له ذلك مرارا ، فجعل لا يلتفت إليها ، فقالت : الله أمرك بهذا ؟ . . قال : نعم . قالت : إذن لا يضيعنا . وفي رواية : فقالت له : إلى من تتركنا ؟ قال : إلى الله . فقالت : قد رضيت . ثم رجعت . فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الدعوات ، رفع يديه وقال : ( ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ،
( 1 ) ابن عثمان بن طلحة كان بيده مفتاح الكعبة . ( 2 ) ” استقصروا ” : أي تركوا منه جزءا وهو الحجر
ربنا ليقيموا لصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم ، وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ) . وقعدت أم إسماعيل تحت الدوحة ، ووضعت ابنها إلى جنبها وعلقت شنها تشرب منه ، وترضع ابنها ، حتى فني ما في شنها ، فانقطع درها ، واشتد جوع ابنها حتى نظرت إليه يتشحط ، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه ، فقامت على الصفا – وهو أقرب جبل يليها – ثم استقبلت الوادي تنظر ، هل ترى أحدا ؟ . . فلم تر أحدا ، فهبطت من الصفا . حتى إذا بلغت الوادي ، رفعت طرف درعها ، ثم سعت سعي إنسان مجهود ، حتى جاوزت الوادي ، ثم أتت المروة ، فقامت عليها ونظرت ، هل ترى أحدا ؟ فلم تر أحدا ، ففعلت ذلك سبع مرات .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ” فلذلك سعى الناس بينهما ” .
حكمه : اختلف العلماء في حكم السعي بين الصفا والمروة ، إلى آراء ثلاثة : ( أ ) فذهب ابن عمر ، وجابر ، وعائشة من الصحابة رضي الله عنهم ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد – في إحدى الروايتين عنه – إلى أن السعي ركن من أركان الحج . بحيث لو ترك الحاج السعي بين الصفا والمروة ، بطل حجه ولا يجبر بدم ، ولا غيره . واستدلوا لمذهبهم بهذه الادلة : 1 – روى البخاري عن الزهري قال عروة : سألت عائشة رضي الله عنها فقلت لها : أرأيت قول الله تعالى : ( إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ) فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة . قالت : بئسما قلت يا ابن أخي : إن هذه لو كانت كما أولتها عليه ، كانت لا جناح عليه أن لا يطوف بهما . ولكنها أنزلت في الانصار : كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشلل ، فكان من أهل يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة . فلما أسلموا ، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك . قالوا : يا رسول الله إنا كنا نتحرج أن نطوف بى الصفا والمروة ، فأنزل الله تعالى : ( إن الصفا والمروة من شعائر الله ) الآية . قالت عائشة رضي الله عنها : وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما ، فليس لاحد أن يترك الطواف بينهما . 2 – وروى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاف المسلمون – يعني بين الصفا والمروة – فكانت سنة ، ولعمري ما أتم الله حج من لم يطف بين الصفا والمروة . 3 – وعن حبيبة بنت أبي تجراه – إحد نساء بني عبدالدار – قالت : دخلت مع نسوة من قريش دارآل أبي حسين ننظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يسعى بين الصفا والمروة وإن مئزره ليدور في وسطه من شدة سعيه ، حتى إني لاقول : إني لارى ركبتيه ، وسمعته يقول : ” اسعوا ، فإن الله كتب عليكم السعي ” ( 1 ) . رواه ابن ماجه ، وأحمد ، والشافعي . 4 – ولانه نسك في الحج والعمرة ، فكان ركنا فيهما ، كالطواف بالبيت . ( ب ) وذهب ابن عباس ، وأنس ، وابن الزبير ، وابن سيرين ، ورواية عن أحمد : أنه سنة ، لا يجب بتركه شئ . 1 – استدلوا بقوله تعالى : ( فلا جناح عليه أن يطوف بهما ) . ونفى الحرج عن فاعله : دليل على عدم وجوبه ، فإن هذا رتبة المباح . وإنما تثبت سنيته بقوله : ” من شعائر الله ” . وروى في مصحف أبي ، وابن مسعود : ” فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما ” . وهذا ، وإن لم يكن قرآنا ، فلا ينحط عن رتبة الخبر ، فيكون تفسيرا . 2 – ولانه نسك ذو عدد ، لا يتعلق بالبيت ، فلم يكن ركنا ، كالرمي . ( ج ) وذهب أبو حنيفة ، والثوري ، والحسن : إلى أنه واجب ، وليس
( 1 ) في إسناه عبد الله بن المؤمل ، وهو ضعيف كما سيأتي بعد . إلا أن طرقا أخرى إذا انضمت إلى بعضها قويت كما في الفتح .
بركن ، لا يبطل الحج أو العمرة بتركه ، وأنه إذا تركه وجب عليه دم . ورجح صاحب المغني هذا الرأي فقال : 1 – وهو أولى ، لان دليل من أوجبه ، دل على مطلق الوجوب ، لاعلى كونه لا يتم الواجب إلا به . 2 – وقول عائشة رضي الله عنها في ذلك معارض بقول من خالفها من الصحابة . 3 – وحديث بنت أبي تجراه ، قال ابن المنذر يرويه عبد الله بن المؤمل ، وقد تكلموا في حديثه . وهو يدل على أنه مكتوب ، وهو الواجب . 4 – وأما الآية فإنها نزلت لما تحرج ناس من السعي في الاسلام ، لما كانوا يطوفون بينهما في الجاهلية ، لاجل صنمين ، كانا على الصفا والمروة .
شروطه :
يشترط لصحة السعي أمور : 1 – أن يكون بعد طواف . 2 – وأن يكون سبعة أشواط . 3 – وأن يبدأ بالصفا ويختم بالمروة ( 1 ) . 4 – وأن يكون السعي في المسعى ، وهو الطريق الممتد بين الصفا والمروة ( 2 ) . لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ، مع قوله : ” خذوا عني مناسككم ” . فلو سعى قبل الطواف ، أو بدأ بالمروة وختم بالصفا ، أو سعى في غير المسعى ، بطل سعيه . الصعود على الصفا : ولا يشترط لصحة السعي أن يرقى على الصفا والمروة . ولكن يجب عليه
( 1 ) يقدر طوله 420 مترا . ( 2 ) مذهب الاحناف : أنهما واجبان لا شرطان ، فإذا سعى قبل الطواف ، أو بدأ بالمروة وختم بالصفا ، صح سعيه ، ووجب عليه دم .
أن يستوعب ما بينهما ، فليصق قدمه بهما في الذهاب والاياب ، فإن ترك شيئا لم يستوعبه ، لم يجزئه حتى يأتي .
الموالاة في السعي : ولا تشترط الموالاة في السعي ( 1 ) . فلو عرض له عارض يمنعه من مواصلة الاشواط ، أو أقيمت الصلاة ، فله أن يقطع السعي لذلك ، فإذا فرغ مما عرض له ، بني عليه وأكمله . فعن ابن عمر رضي الله عنهما : أنه كان يطوف بين الصفا والمروة ، فأعجله البول ، فتنحى ودعا بماء فتوضأ ، ثم قام ، فأتم على ما مضى . رواه سعيد بن منصور . كما لا تشترط الموالاة بين الطواف والسعي . قال في المغني : قال أحمد : لا بأس أن يؤخر السعي حتى يستريح ، أو إلى العشي . وكان عطاء والحسن لا يريان بأسا – لمن طاف بالبيت أول النهار – أن يؤخر الصفا والمروة إلى العشي . وفعله القاسم وسعيد بن جبير ، لان الموالاة إذا لم تجب في نفس السعي ، ففيما بينه وبين الطواف أولى . وروى سعيد بن منصور : أن سودة زوج عروة بن الزبير سعت بين الصفا والمروة ، فقضت طوافها في ثلاثة أيام ، وكانت ضخمة .
الطهارة للسعي : ذهب أكثر أهل العلم : إلى أنه لا تشترط الطهارة للسعي بين الصفا والمروة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة – حين حاضت – : ” فاقضي ما يقضي الحاج ، غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تغتسلي ” . رواه مسلم . وقالت عائشة وأم سلمة : إذا طافت المرأة بالبيت وصلت ركعتين ، ثم حاضت ، فلتطف بالصفا والمروة . رواه سعيد بن منصور . وإن كان المستحب أن يكون المرء على طهارة في جميع مناسكه فإن الطهارة أمر مرغوب شرعا .
( 1 ) عند مالك موالاة السعي – بلاد تفريق كثير – شرط
المشي والركوب فيه : يجوز السعي راكبا وماشيا ، والمشي أفضل . وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما ما يفيد أنه صلى الله عليه وسلم مشى ، فلما كثر عليه الناس وغشوه ركب ليروه ويسألوه . قال أبو الطفيل لابن عباس رضي الله عنهما : أخبرني عن الطواف بين الصفا والمروة راكبا ، أسنة هو ؟ فإن قومك يزعمون أنه سنة . قال : صدقوا وكذبوا . قال : قلت : وما قولك : صدقوا وكذبوا ؟ . . . قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثر عليه الناس يقولون هذا محمد ، هذا محمد ، حتى خرج العواتق ( 1 ) من البيوت قال : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يضرب الناس بين يديه ، فلما كثر عليه الناس ركب . والمشي والسعي ( 2 ) أفضل . رواه مسلم ، وغيره . والركوب ، وإن كان جائزا ، إلا أنه مكروه . قال الترمذي : وقدكره قوم من أهل العلم أن يطوف الرجل بالبيت وبين الصفا والمروة راكبا إلا من عذر ، وهو قول الشافعي . وعند المالكية : أن من سعى راكبا من غير عذر أعاد ، إن لم يفت الوقت ، وإن فات فعليه دم ، لان المشي عند القدرة عليه واجب . وكذا يقول أبو حنيفة . وعللوا ركوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بكثرة الناس وازدحامهم عليه ، وغشيانهم له . وهذا عذر يقتضي الركوب .
استحباب السعي بين الميلين : يندب المشي بين الصفا والمروة ، فيما عدا ما بين الميلين ، فإنه يندب الرمل بينهما ، وقد تقدم حديث بنت أبي تجراه وفيه : ان النبي صلى الله عليه وسلم سعى ، حتى إن مئزره ليدور من شدة السعي .
( 1 ) ” العواتق ” : جمع عائق وهي البكر البالغة ، سميت بذلك لانها عتقت من الابتذال والتصرف الذي تفعله الطفلة . ( 2 ) السعي يكون في بطن الوادي بين الميلين . والمشي فيما سواه .
وفي حديث ابن عباس المتقدم : والمشي والسعي أفضل . أي السعي في بطن الوادي بين الميلين ، والمشي فيما سواه . فإن مشى دون أن يسعى جاز . فعن سعيد بن جبير رضي الله عنه قال : رأيت ابن عمر رضي الله عنهما يمشي بين الصفا والمروة . ثم قال : إن مشيت ، فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي . وإن سعيت ، فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى ، فأنا شيخ كبير . رواه أبو داود الترمذي . وهذا الندب في حق الرجل . أما المرأة فإنه لا يندب لها السعي ، بل تمشي مشيا عاديا . روى الشافعي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت – وقد رأت نساء يسعين – : أما لكن فينا أسوة ؟ . . . ليس عليكن سعي ( 1 )
استحباب الرقي على الصفا والمروة والدعاء عليهما مع استقبال البيت يستحب الرقي على الصفا والمروة ، والدعاء عليهما بما شاء من أمر الدين والدنيا ، مع استقبال البيت . فالمعروف من فعل النبي صلى الله عليه وسلم : أنه خرج من باب الصفا . فلما دنا من الصفا قرأ : ” ( إن الصفا والمروة من شعائر الله ) . أبدأ بما بدأ الله به ” فبدأ بالصفا فرقي عليه ، حتى رأى البيت . فاستقبل القبلة فوحد الله وكبره ثلاثا ، وحمده و قال : ” لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شئ قدير ، لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ، ونصر عبده ، وهزم الاحزاب وحده ” ثم دعا بين ذلك ، وقال مثل هذا ، ثلاث مرات . ثم نزل ما شيا إلى المروة ، حتى أتاها ، فرقي عليها ، حتى نظر إلى البيت ، ففعل على المروة ، كما فعل على الصفا . وعن نافع قال : سمعت عبد الله بن عمر رضي الله عنهما – وهو على الصفا يدعو – يقول : اللهم إنك قلت : ( ادعوني أستحب لكم ) وإنك
( 1 ) أي إنهن يمشين ولا يسعين ، إذ لا خلاف في وجوب السعي عليهن
لاتخلف الميعاد ، وإني أسألك – كما هديتني للاسلام – أن لا تنزعه مني حتى تتوفاني وأنا مسلم . الدعاء بين الصفا والمروة : يستحب الدعاء بين الصفا والمروة ، وذكر الله تعالى ، وقراءة القرآن . وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في سعيه ” رب اغفر وارحم واهدني السبيل الاقوم ” . وروي عنه : رب اغفر وارحم ، إنك أنت الاعز الاكرم ” . وبالطواف والسعي تنتهي أعمال العمرة . ويحل المحرم من إحرامه بالحلق أو التقصير إن كان متمتعا ، ويبقى على إحرامه إن كان قارنا . ولا يحل إلا يوم النحر ، ويكفيه هذا السعي عن السعي بعد طواف الفرض ، إن كان قارنا . ويسعى مرة أخرى ، بعد طواف الافاضة إن كان متمتعا . ويبقى بمكة حتى يوم التروية .
التوجه الى منى من السنة التوجه إلى منى يوم التروية ( 1 ) . فإن كان الحاج قارنا ، أو مفردا ، توجه إليها بإحرامه . وإن كان متمتعا ، أحرم بالحج ، وفعل كما فعل عند الميقات . والسنة : أن يحرم من الموضع الذي هو نازل فيه . فإن كان في مكة : أحرم منها ، وإن كان خارجها : أحرم حيث هو . ففي الحديث : ” من كان منزله دون مكة فمهله من أهله ، حتى أهل مكة يهلون من مكة ” . ويستحب الاكثار من الدعاء والتلبية عند التوجه إلى منى وصلاة الظهر
( 1 ) ” يوم التروية ” هو اليوم الثامن من ذي الحجة . وسمي بذلك ، لانه مشتق من الرواية ، لان الامام يروي للناس مناسكهم . وقيل من الارتواء لانهم يرتوون الماء في ذلك اليوم ، ويجمعونه بمنى .
والعصر ، والمغرب والعشاء ، والمبيت بها . وأن لا يخرج الحاج منها حتى تطلع شمس يوم التاسع ، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم . فإن ترك ذلك أو شيئا منه فقد ترك السنة ، ولاشئ عليه ، فإن عائشة لم تخرج من مكة يوم التروية ، حتى دخل الليل ، وذهب ثلثه . روى ذلك ابن المنذر . جواز الخروج قبل يوم التروية : روى سعيد بن منصور عن الحسن : أنه كان يخرج إلى منى من مكة قبل التروية بيوم أو يومين . وكرهه مالك ، وكره الاقامة بمكة يوم التروية حتى يمسي ، إلا إن أدركه وقت الجمعة بمكة ، فعليه أن يصليها قبل أن يخرج .
التوجه الى عرفات يسن التوجه إلى عرفات بعد طلوع شمس يوم التاسع ، عن طريق ضب ، مع التكبير والتهليل والتلبية . قال محمد بن أبي بكر الثقفي : سألت أنس بن مالك – ونحن غاديان من منى إلى عرفات – عن التلبية ، كيف كنتم تصنعون مع النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : ” كان يلبي الملبي فلا ينكر عليه ، وينكر المكبر ، فلا ينكر عليه ويهلل المهلل ، فلا ينكر عليه . رواه البخاري وغيره . ويستحب النزول بنمرة والاغتسال عندها للوقوف بعرفة ، ويستحب أن لا يدخل عرفة إلا وقت الوقوف بعد الزوال .
الوقوف بعرفة فضل يوم عرفة : عن جابررضي الله عنه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” مامن أيام عند الله أفضل من عشر ذي الحجة ” . فقال رجل : هن أفضل ، أم من عدتهن جهادا في سبيل الله ؟ قال : ” هن أفضل من عدتهن جهادا في سبيل الله . وما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة ، ينزل الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا ، فيباهي بأهل الارض أهل السماء فيقول : انظروا إلى عبادي ، جاءوني شعثا غبرا ضاحين . جاءوا من كل فج عميق ، يرجون رحمتي ولم يروا عذابي ، فلم ير يوم أكثر عتيقا من النار من يوم عرفة ” . قال المنذري : رواه أبو يعلى والبزار ، وابن خزيمة ، وابن حبان ، واللفظ له . وروى ابن المبارك عن سفيان الثوري ، عن الزبير بن علي ، عن أنس ابن مالك رضي الله عنه ، قال : وقف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات ، وقد كادت الشمس أن تثوب . فقال : ” يا بلال : أنصت لي الناس ” ، فقام بلال فقال : أنصتوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنصت الناس . فقال : ” معشر الناس : أتاني جبريل عليه السلام آنفا ، فأقرأني من ربي السلام ، وقال : إن الله عزوجل غفر لاهل عرفات ، وأهل المشعر الحرام ، وضمن عنهم المتبعات ” . فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : يا رسول الله هذا لنا خاصة ؟ قال : ” هذا لكم ولمن أتى من بعدكم إلى يوم القيامة ” . فقال عمر رضي الله عنه : كثر خير الله وطاب . روى مسلم وغيره ، عن عائشة رضي الله عنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة ، وإنه ليدنو عزوجل ثم يباهي بهم الملائكة فيقول : ما أراد هؤلاء ؟ ” وعن أبي الدرداء رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” ما رؤي الشيطان يوما هو فيه أصغر ، ولا أدحر ( 1 ) ولا أغيظ منه في يوم عرفة ” . وما ذك إلالما رأى من تنزل الرحمة ، وتجاوز الله عن الذنوب العظام ، إلا ما أري من يوم بدر .
( 1 ) ” أدحر ” الدحر : الدفع بعنف على سبيل الاذلال والاهانة .
قيل : وما رأى يوم بدر يا رسول الله ؟ قال : ” أما إنه رأى جبريل يزع ( 1 ) الملائكة ” . رواه مالك مرسلا ، والحاكم موصولا . حكم الوقوف : أجمع العلماء : على أن الوقوف بعرفة هو ركن الحج الاعظم ، لما رواه أحمد ، وأصحاب السنن ، عبد الرحمن بن يعمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر مناديا ينادي : ” الحج عرفة ( 2 ) ، من جاء ليلة جمع ( 3 ) قبل طلوع الفجر فقد أدرك ” .
وقت الوقوف : يرى جمهور العلماءأن وقت الوقوف يبتدئ من زوال اليوم التاسع ( 4 ) إلى طلوع فجر يوم العاشر ، وأنه يكفي الوقوف في أي جزء من هذا الوقت ليلا أو نهارا . إلا أنه إن وقف بالنهار وجب عليه مد الوقوف إلى ما بعد الغروب . أما إذا وقف بالليل فلا يجب عليه شئ . ومذهب الشافعي : أن مد الوقوف إلى الليل سنة .
المقصود بالوقوف : المقصود بالوقوف : الحضور والوجود ، في أي جزء من عرفة ولو كان نائما ، أو يقظان ، أو راكبا ، أو قاعدا ، أو مضطجعا أو ماشيا . وسواء أكان طاهرا أم غير طاهر كالحائض والنفساء والجنب . واختلفوا في وقوف المغمى عليه ولم يفق حتى خرج من عرفات . فقال أبو حنيفة ومالك : يصح .
( 1 ) ” يزع ” أي يقود . ( 2 ) ” الحج عرفة ” : أي الحج الصحيح حج من أدرك الوقوف يوم عرفة . ( 3 ) ) ” ليلة جمع ” : ليلة المبيت بمزدلفة ، وهي ليلة النحر . وظاهره أنه يكفي الوقوف في أي جزء من عرفة ولو لحظة . ( 4 ) مذهب الحنابلة : أن الوقوف يبتدئ من فجر يوم التاسع إلى فجر يوم النحر .
وقال الشافعي وأحمد ، والحسن ، وأبو ثور ، وإسحاق ، وابن المنذر : لا يصح ، لانه ركن من أركان الحج . فلم يصح من المغمى عليه ، كغيره من الاركان . قال الترمذي عقب تخريجه لحديث ابن يعمر المتقدم ، قال سفيان الثوري : والعمل على حديث عبد الرحمن بن يعمر عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم : أن من لم يقف بعرفات قبل الفجر ، فقد فاته الحج ، ولايجزئ عنه إن جاء بعد طلوع الفجر ، ويجعلها عمرة وعليه الحج من قابل ، وهو قول الشافعي وأحمد وغيرهما . استحباب الوقوف عند الصخرات : يجزئ الوقوف في أي مكان من عرفة ، لان عرفة كلها موقف إلا بطن عرفة ( 1 ) ، فإن الوقوف به لايجزئ بالاجماع . ويستحب أن يكون الوقوف عند الصخرات ، أو قريبا منها حسب الامكان . فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف في هذا المكان وقال : ” وقفت هاهنا ، وعرفة كلها موقف ” رواه أحمد ، ومسلم ، وأبو داود ، من حديث جابر . والصعود إلى جبل الرحمة واعتقاد أن الوقوف به أفضل خطأ ، وليس بسنة . استحباب الغسل : يندب الاغتسال للوقوف بعرفة . وقد كان ابن عمر رضي الله عنهما يغتسل لوقوفه عشية عرفة . رواه مالك . واغتسل عمر رضي الله عنه بعرفات وهو مهل .
آداب الوقوف والدعاء : ينبغي المحافظة على الطهارة الكاملة ، واستقبال القبلة والاكثار من الاستغفار والذكر والدعاء لنفسه ، ولغيره ، بما شاء من أمر الدين والدنيا مع الخشية ، وحضور القلب ، ورفع اليدين .
( 1 ) ” بطن عرفة ” واد يقع في الجهة الغربية من عرفة
قال أسامة بن زيد : كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات ، فرفع يديه يدعو . رواه النسائي . وعن عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده قال : كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة ” لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، بيده الخير وهو على كل شئ قدير ” . رواه أحمد والترمذي ، ولفظه : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” خير الدعاء ، دعاء يوم عرفة ، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي . لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شئ قدير ” . ويروى عن الحسين بن الحسن المروزي قال : سألت سفيان بن عيينة عن أفضل الدعاء يوم عرفة . فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له . فقلت له : هذا ثناء وليس بدعاء . فقال : أنا تعرف حديث مالك بن الحارث ؟ هو تفسيره . فقلت : حدثنيه أنت ، فقال : حدثنا منصور ، عن مالك بن الحارث قال : يقول الله عزوجل : ” إذا شغل عبدي ثناؤه علي عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين ” . قال : وهذا تفسير قول النبي صلى الله عليه وسلم . ثم قال سفيان : أما علمت ما قال أمية بن أبي الصلت حين أتى عبد الله ابن جدعان يطلب نائله ؟ فقلت : لا . فقال : قال أمية : أأذكر حاجتي أم قد كفاني – حياؤك إن شيمتك الحياء وعلمك بالحقوق وأنت فرع – لك الحسب المهذب والسناء إذا أثنى عليك المرء يوما – كفاه من تعرضه الثناء ثم قال : يا حسين ، هذا مخلوق يكتفى بالثناء عليه دون مسألة ، فكيف بالخالق ؟ روى البيهقي ( 1 ) عن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه ال وسلم : ” إن أكثر دعاء من كان قبلي من الانبياء ، ودعائي يوم عرفة ، أن أقول : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شئ قدير ، اللهم اجعل في بصري نورا ، وفي سمعي نورا ، وفي قلبي نورا . اللهم اشرح لي صدري ، ويسر لي أمري ، اللهم أعوذ بك من وسواس الصدر ، وشتات الامر ، وشر فتنة القبر . وشر ما يلج في الليل وشر ما يلج في النهار ، وشر ما تهب به الرياح ، وشر بوائق ( 2 ) الدهر ” . وروى الترمذي عنه قال : أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة في الموقف : ” اللهم لك الحمد كالذي نقول ، وخيرا مما نقول ، اللهم لك صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي ، وإليك مآبي ، ولك رب تراثي ، اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ، ووسوسة الصدر ، وشتات الامر ، اللهم إني أعوذ بك من شر ما تهب به الريح ” . الوقوف سنة ابراهيم عليه السلام : وعن مربع الانصاري قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ” كونوا على مشاعركم ( 3 ) فإنكم على إرث من إرث إبراهيم ( 4 ) ” رواه الترمذي وقال : حديث ابن مربع ، حديث حسن .
صيام عرفة ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفطر يوم عرفة وأنه قال : ” إن يوم عرفة ، ويوم النحر ، وأيام التشريق عيدنا – أهل السلام – وهي أيام أكل وشرب ” . ثبت عنه أنه نهى عن صوم يوم عرفة بعرفات . وقد استدل أكثر أهل العلم بهذا الاحاديث : على استحباب الافطار يوم عرفة للحاج ، ليتقوى على الدعاء والذكر .
( 1 ) سنده ضعيف . ( 2 ) ” بوائق الدهر ” أي مهلكاته . ( 3 ) ” مشاعر ” جمع مشعر ، مواضع النسك : سميت بذلك لانها معالم العبادات . ( 4 ) أي أن موقفهم موقف إبراهيم ورثوه منه ، ولم يخطئوا في الوقوف فيه عن سنته /
وما جاء من الترغيب في صوم يوم عرفة ، فهو محمول على من لم يكن حاجا بعرفة . الجمع بين الظهر والعصر : في الحديث الصحيح : أن النبي صلى الله عليه وسلم ، جمع بين الظهر والعصر بعرفة . أذن ثم أقام فصلى الظهر ، ثم أقام فصلى العصر . وعن الاسود ، وعلقمة ، أنهما قالا :
من تمام الحج أن يصلي الظهر والعصر مع الامام بعرفة . وقال ابن المنذر : ” أجمع أهل العلم : على أن الامام يجمع بين الظهر العصر بعرفة ، وكذلك من صلى مع الامام ” فإن لم يجمع مع الامام يجمع ومنفردا . وعن ابن عمر رضي الله عنهما : أنه كان يقيم بمكة ، فإذا خرج إلى منى ، قصر الصلاة . وعن عمرو بن دينار قال : قال لي جابر بن زيد : أقصر الصلاة بعرفة . روى ذلك سعيد بن منصور .
الافاضة من عرفة يسن الافاضة ( 1 ) من عرفة بعد غروب الشمس ، بالسكينة ، وقد أفاض صلى الله عليه وسلم بالسكينة ، وضم إليه زمام ناقته ، حتى إن رأسها ليصيب طرف رحله ، وهو يقول : ” أيها الناس عليكم بالسكينة ، فإن البر ليس بالابضاع ” – أي الاسراع – رواه البخاري ومسلم . وكان – صلوات الله وسلامه عليه – يسير العنق فإذا وجد فجوة نص . رواه الشيخان . أي أنه كان يسير سيرا رفيقا من أجل الرفق بالناس فإذا وجد فجوة
( 1 ) ” الافاضة ” : الدفع ، يقال : أفاض من المكان ، إذا أسرع منه إلى المكان الاخر ، وأصله ، الدفع ، سمي به لانهم إذا انصرفوا ازدحموا . ودفع بعضهم بعضا .
أي مكانا متسعا ، ليس به زحام – سار سيرا ، فيه سرعة . ويستحب التلبية والذكر . فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي ، حتى رمى جمرة العقبة . وعن أشعث بن سليم ، عن أبيه قال : أقبلت مع ابن عمر رضي الله عنهما من عرفات إلى مزدلفة ، فلم يكن يفتر من التكبير والتهليل حتى أتينا المزدلفة . رواه أبو داود .
الجمع بين المغرب والعشاء في المزدلفة : فإذا أتى المزدلفة ، صلى المغرب والعشاء ركعتين بأذان وإقامتين ، ومن غير تطوع بينهما . ففي حديث مسلم : أنه صلى الله عليه وسلم أتى المزدلفة ، فجمع بين المغرب والعشاء ، بأذان واحد ، وإقامتين ، ولم يسبح ( 1 ) بينهما شيئا . وهذا الجمع سنة بإجماع العلماء . واختلفوا فيما لو صلى كل صلاة في وقتها . فجوزه أكثر العلماء ، وحملوا فعله صلى الله عليه وسلم على الاولوية . وقال الثوري وأصحاب الرأي : إن صلى المغرب دون مزدلفة ، فعليه الاعادة . وجوزوا في الظهر والعصر أن يصلي كل واحدة في وقتها مع الكراهية . المبيت بالمزدلفة والوقوف بها : في حديث جابر رضي الله عنه : أنه صلى الله عليه وسلم لما أتى المزدلفة ، صلى المغرب والعشاء ، ثم اضطجع حتى طلع الفجر فصلى الفجر ، ثم ركب القصواء ، حتى أتى المشعر الحرام ، ولم يزل واقفا ، حتى أسفر جدا ، ثم دفع قبل طلوع الشمس . ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أحيا هذه الليلة . وهذه هي السنة الثابتة في المبيت بالمزدلفة ، والوقوف بها . وقد أوجب أحمد المبيت بالمزدلفة على غير الرعاة والسقاة . أما هم فلا يجب عليهم المبيت بها . أما سائر أئمة المذاهب ، فقد أوجبوا الوقوف بها دون البيات .
والمقصود بالوقوف الوجود على أية صورة . سواء أكان واقفا أم قاعدا ، أم سائرا أم نائما . وقالت الاحناف : الواجب هو الحضور المزدلفة قبل فجر يوم النحر . فلو ترك الحضور لزمه دم . إلا إذا كان له عذر ، فإن لا يجب عليه الحضور ولا شئ عليه حينئذ . وقالت المالكية : الواجب هو النزول بالمزدلفة ليلا ، قبل الفجر ، بمقدار ما يحط رحله وهو سائر من عرفة إلى منى ، ما لم يكن له عذر . فإن كان له عذر ، فلا يجب عليه النزول . وقالت الشافعية : الواجب هو الوجود بالمزدلفة ، في النصف الثاني من ليلة يوم النحر ، بعد الوقوف بعرفة . ولا يشترط المكث بها ، ولا العلم بأنها المزدلفة ، بل يكفي المرور بها . سواء أعلم أن هذا المكان هو المزدلفة ، أم لم يعلم . والسنة أن يصلي الفجر في أول الوقت ثم يقف بالمشعر الحرام إلى أن يطلع الفجر ، ويسفر جدا قبل طلوع الشمس . ويكثر من الذكر والدعاء . قال تعالى : ” فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام ، واذكروه كما هداكم ، وإن كنتم من قبله لمن الضالين . ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ، واستغفروا الله إن الله غفور رحيم ” . فإذا كان قبل طلوع الشمس أفاض من مزدلفة إلى منى فإذا أتى محسرا أسرع قدر رمية بحجر .
مكان الوقوف : المزدلفة كلها مكان للوقوف إلا وادي محسر ( 1 ) . فعن جبير بن مطعم : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” كل مزدلفة موقف ، وارفعوا عن محسر ” رواه أحمد ، ورجاله موثقون . والوقوف عند قزح أفضل . ففي حديث علي رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أصبح
( 1 ) ” وادي محسر ” وهو بين المزدلفة ومنى .
بجمع أتى قزح ( 1 ) فوقف عليه ، وقال : ” هذا قزح وهو الموقف ، وجمع كلها موقف ” . رواه أبو داود ، والترمذي وقال : حسن صحيح .
أعمال يوم النحر أعمال يوم النحر تؤدى مرتبة هكذا : يبدأ بالرمي ، ثم الذبح ، ثم الحلق ، ثم الطواف بالبيت . وهذا الترتيب سنة . فلو قدم منها نسكا على نسك فلا شئ عليه ، عند أكثر أهل العلم . وهذا مذهب الشافعي ، لحديث عبد الله بن عمرو أنه قال : وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع للناس بمنى ، والناس يسألونه ، فجاءه رجل ، فقال : يا رسول الله . إني لم أشعر ( 2 ) فحلقت قبل أن أنحر . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” اذبح ولا حرج ” . ثم جاء آخر ، فقال يا رسول الله إني لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” ارم ولا حرج ” . قال فما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شئ قدم ولا أخر إلا قال : ” افعل ولا حرج ” . وذهب أبو حنيفة : إلى أنه إن لم يراع الترتيب ، فقدم نسكا على نسك فعليه دم . وتأول قوله ” ولا حرج ” على رفع الاثم دون الفدية . التحلل الاول والثاني وبرمي الجمرة يوم النحر وحلق الشعر أو تقصيره ، يحل للمحرم كل ما كان محرما عليه بالاحرام . فله أن يمس الطيب ويلبس الثياب وغير ذلك ما عدا النساء .
( 1 ) ” قزح ” : موضع من المزدلفة ، وهو موقف قريش في الجاهلية إذ كانت لا تقف بعرفة . وقال الجوهري : اسم جبل بالمزدلفة ، ويقال إنه المشعر الحرام عند كثير من الفقهاء . ( 2 ) ” لم أشعر ” : أي لم انتبه ولم أدر .
وهذا هو التحلل الاول . فإذا طاف طواف الافاضة – وهو طواف الركن – حل له كل شئ ، حتى النساء . وهذا هو التحلل الثاني ، والاخير .
رمي الجمار ( 1 ) أصل مشروعيته : روى البيهقي ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” لما أتى إبراهيم عليه السلام المناسك عرض له الشيطان عند جمرة العقبة فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الارض . ثم عرض له عند الجمرة الثانية فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الارض . ثم عرض له عند الجمرة الثالثة فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الارض . ” قال ابن عباس رضي الله عنهما : الشيطان ترجمون ، وملة أبيكم تتبعون . قاله المنذري : ورواه ابن خزيمة في صحيحه ، والحاكم وقاله صحيح على شرطهما . حكمته : قال أبو حامد الغزالي رحمه الله في الاحياء : وأما رمي الجمار فليقصد الرامي به الانقياد للامر ، وإظهارا للرق والعبودية ، وانتهاضا لمجرد الامتثال ، من غير حظ للنفس والعقل في ذلك . ثم ليقصد به التشبه بإبراهيم عليه السلام ، حيث عرض له إبليس – لعنه الله تعالى – في ذلك الموضع ليدخل على حجه شبهة ، أو يفتنه بمعصية . فأمره الله عز وجل أن يرميه بالحجارة طردا له ، وقطعا لامله .
( 1 ) ” الجمار ” : هي الحجارة الصغيرة . والجمار التي ترمى ثلاث ، كلها بمنى ، وهي : 1 – ” جمرة العقبة ” على يسار الداخل إلى منى . 2 – الوسطى بعدها وبينهما : 77 و 116 مترا . 3 – والصغرى وهي التي تلي مسجد الحيف وبين الصغر والوسطى 4 و 156 مترا
فإن خطر لك : أن الشيطان عرض له وشاهده فلذلك رماه ، وأما أنا فليس يعرض لي الشيطان . فاعلم أن هذا الخاطر من الشيطان ، وأنه هو الذي ألقاه في قلبك ليفتر عزمك في الرمي . ويخيل إليك أنه لا فائدة فيه ، وأنه يضاهي اللعب فلم تشتغل به ؟ فاطرده عن نفسك بالجد والتشمير والرمي ، فبذلك ترغم أنف الشيطان . واعلم أنك في الظاهر ترمي الحصى في العقبة ، وفي الحقيقة ترمى به وجه الشيطان وتقصم به ظهره . إذا لا يحصل إرغام أنفه إلا بامتثالك أمر الله سبحانه وتعالى تعظيما له بمجرد الامر من غير حظ للنفس فيه . حكمه : ذهب جمهور العلماء : إلى أن رمي الجمار واجب ، وليس بركن ، وأن تركه يجبر بدم . لما رواه أحمد ومسلم ، والنسائي ، عن جابر رضي الله عنه قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة على راحلته يوم النحر ، ويقول : ” لتأخذوا عني مناسككم ، فإني لاأدرى لعلي لا أحج بعد حجتي هذه ” . وعن عبد الرحمن التيمي قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نرمي الجمار بمثل حصى الحذف ( 1 ) في حجة الوداع . رواه الطبراني في الكبير بسند ، ورجاله رجال الصحيح .
قدر كم تكون الحصاة ، وما جنسها ؟ في الحديث المتقدم : أن الحصى الذي يرمى به مثل حصى الحذف . ولهذا ذهب أهل العلم إلى استحباب ذلك . فإن تجاوزه ورمى بحجر كبير فقد قال الجمهور : يجزئه ويكره . وقال أحمد : لا يجزئه حتى يأتي بالحصى ، على ما فعل النبي صلى الله
( 1 ) ” الحذف ” ، الرمي . والمراد هنا الرمي بالحصى الصغار مثل حب الباقلاء ، وهو الفول . قال الاثرم : يكون أكبر من الحمص ، ودون البندق .
عليه وسلم ، ولنهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك . فعن سليمان بن عمرو بن الاحوص الازدي ، عن أمه قالت : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم – وهو في بطن الوادي – وهو يقول : ” يا أيها الناس لا يقتل بعضكم بعضا ، إذا رميتم الجمرة فارموا بمثل حصى الحذف ” رواه أبو داود . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” هات ، القط لي ” فلقطت له حصيات هي حصى الحذف ، فلما وضعتهن في يده قال : ” بأمثال هؤلاء وإياكم والغلو في الدين ، فإنما أهلك الذين من قبلكم الغلو في الدين ” . رواه أحمد ، والنسائي ، وسنده حسن . وحمل الجمهور هذه الاحاديث على الاولوية والندب . واتفقوا : على أنه لا يجوز الرمي إلا بالحجر ، وأنه لا يجوز بالحديد ، أو الرصاص ، ونحوهما . وخالف في ذلك الاحناف ، فجوزوا الرمي بكل ما كان من جنس الارض حجرا ، أو طينا ، أو آجرا ، أو ترابا ، أو خزفا . لان الاحاديث الواردة في الرمي مطلقة . وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته محمول على الافضلية ، لا على التخصيص . ورجح الاول بأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى الحصى ، وأمر بالرمي بمثل حصى الحذف ، فلا يتناول غير الحصى ، ويتناول جميع أنواعه .
من أين يؤخذ الحصى : كان ابن عمر رضي الله عنهما يأخذ الحصى من المزدلفة ، وفعله سعيد ابن جبير وقال : كانوا يتزودون الحصى منها واستحبه الشافعي . وقال أحمد : خذ الحصى من حيث شئت . وهو قول عطاء وابن المنذر . لحديث ابن عباس المتقدم وفيه : ” القط لي ” ولم يعين مكان الالتقاط . ويجوز الرمي بحصى أخذ من المرمى مع الكراهة ، عند الحنفية ، والشافعي وأحمد . وذهب ابن حزم إلى الجواز بدون كراهة . . فقال : ورمي الجمار بحصى قد رمي به قبل ذلك جائز ، وكذلك رميها راكبا . أما رميها بحصى قد رمي به ، فلانه لم ينه عن ذلك قرآن ولا سنة . ثم قال : فإن قيل : قد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن حصى الجمار ، ما تقبل منه رفع ، وما لم يتقبل منه ترك ولو لا ذلك لكان ( 1 ) هضابا تسد الطريق ؟ قلنا : نعم ، فكان ماذا ؟ وإن لم يتقبل رمي هذه الحصاة من عمرو فسيتقبل من زيد وقد يتصدق المرء بصدقة فلا يتقبلها الله منه ، ثم يملك تلك العين آخر فيتصدق بها فتقبل منه . وأما رميها راكبا فلحديث قدامة بن عبد الله قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي جمرة العقبة يوم النحر على ناقة له صهباء ، لا ضرب ، ولا طرد ، ولا إليك ، إليك ( 2 ) . عدد الحصى : عدد الحصى الذي يرمى به ، سبعون حصاة ، أو تسع وأربعون . سبع يرمى بها يوم النحر عند جمرة العقبة . وإحدى وعشرون في اليوم الحادي عشر ، موزعة على الجمرات الثلاث ، ترمى كل جمرة منها بسبع . وإحدى وعشرون يرمي بها كذلك في اليوم الثاني عشر . ” ” ” ” ” ” ” الثالث عشر . فيكون عدد الحصى سبعين حصاة . فإن اقتصر على الرمي في الايام الثلاثة ، ولم يرم في اليوم الثالث عشر جاز . ويكون الحصى الذي يرميه الحاج تسعا وأربعين . ومذهب أحمد : إن رمى الحاج بخمس حصيات أجزأه . وقال عطاء : إن رمى بخمس أجزأه . وقال مجاهد إن رمى بست ، فلا شئ عليه .
( 1 ) ” الهضاب ” جمع هضبة : الجبل المنبسط على وجه الارض . ( 2 ) ” إليك ” اسم فعل : أي ابتعد وتنح
وعن سعيد بن مالك قال : رجعنا في الحجة مع النبي صلى الله عليه وسلم ، وبعضنا يقول رميت ست حصيات ، وبعضنا يقول رميت سبع حصيات ، فلم يعب بعضنا على بعض .
أيام الرمي : أيام الرمي ثلاثة أو أربعة : يوم النحر ، ويومان ، أو ثلاثة من أيام التشريق . قال الله تعالى : ” واذكروا الله في أيام معدودات ، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى ( 1 ) ” .
الرمي يوم النحر : الوقت المختار للرمي ، يوم النحر ، وقت الضحى بعد طلوع الشمس ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما رماها ضحى ذلك اليوم . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قدم النبي صلى الله عليه وسلم ضعفة أهله ، وقال ” لا ترموا جمرة العقبة حتى تطلع الشمس ” . رواه الترمذي ، وصححه . فإن أخره إلى آخر النهار ، جاز . قال ابن عبد البر : أجمع أهل العلم أن من رماها يوم النحر قبل المغيب فقد رماها في وقت لها ، وإن لم يكن ذلك مستحبا لها . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل يوم النحر بمنى فقال رجل : رميت بعد ما أمسيت ، فقال : ” لا حرج ” . رواه البخاري . هل يجوز تأخير الرمي إلى الليل : إذا كان فيه عذر بمنع الرمي نهارا ، جاز تأخير الرمي إلى الليل . لما رواه مالك عن نافع : أن ابنة لصفية امرأة ابن عمر نفست بالمزدلفة ، فتخلفت هي صفية ، حتى أتتا منى بعد أن غربت الشمس من يوم النحر ، فأمرهما ابن
( 1 ) أي لا إثم على من تعجل ، فنفر في اليوم الثاني عشر ، ولا على من أخر النفر ، إلى اليوم الثالث عشر .
عمر أن تريما الجمرة حين قدمتا ، ولم ير عليهما شيئا . أما إذا لم يكن فيه عذر فإنه يكره التأخير ، ويرمي بالليل ، ولا دم عليه عند الاحناف والشافعية ، ورواية عن مالك ، لحديث ابن عباس المتقدم . وعند أحمد : إن أخر الرمي حتى انتهى يوما النحر فلا يرمي ليلا ، وإنما يرميها في الغد بعد زوال الشمس . الترخيص للضعفة وذوي الاعذار بالرمي بعد منتصف ليلة النحر لا يجوز لاحد أن يرمي قبل نصف الليل الاخير بالاجماع ويرخص للنساء ، والصبيان ، والضعفة ، وذوي الاعذار ، ورعاة الابل : أن يرموا جمرة العقبة ، من نصف ليلة النحر فعن عائشة رضي الله عنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل أم سلمة ليلة النحر ، فرمت قبل الفجر ثم أفاضت . رواه أبو داود ، والبيهقي ، وقال : إسناده صحيح لا غبار عليه . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لرعاة الابل أن يرموا . . . بالليل رواه البزار . وفيه مسلم بن خالد الزنجي ، وهو ضعيف . وعن عروة قال : دار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أم سلمة يوم النحر ، فأمرها أن تعجل الافاضة من جمع ، حتى تأتي مكة ، فتصلي بها الصبح ، وكان يوما ، فأحب أن ترافقه . رواه الشافعي ، والبيهقي . عن عطاء قال : أخبرني مخبر عن أسماء : أنها رمت الجمرة ، قلت : إنا رمينا الجمرة بليل ، قالت : إنا كنا نصنع هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رواه أبو داود . قال الطبري : استدل الشافعي بحديث أم سلمة ، وحديث أسماء ، على ما ذهب إليه من جواز الافاضة بعد نصف الليل . وذكر ابن حزم أن الاذن في الرمي بالليل مخصوص بالنساء دون الرجال ، ضعفاؤهم وأقوياؤهم في عدم الاذن سواء والذي دل عليه الحديث : أن من كان ذا عذر جاز أن يتقدم ليلا ويرمي ليلا . وقال ابن المنذر : السنة ألا يرمي إلى بعد طلوع الشمس ، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم . ولا يجوز الرمي قبل طلوع الفجر : لان فاعله مخالف للسنة . ومن رماها حينئذ فلا إعادة عليه ، إلا لا أعلم أحدا قال : لا يجزئه .
رمي الجمرة من فوقها : رمي الاسود قال : رأيت عمر رضي الله عنه رمى جمرة العقبة من فوقها . وسئل عطاء عن الرمي من فوقها فقال : لا بأس . رواهما سعيد ابن منصور . الرمي في الايام الثلاثة : الوقت المختار للرمي في الايام الثلاثة يبتدئ من الزوال إلى الغروب . فعن ابن عباس رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى الجمار عند زوال الشمس ، أو بعد زوال الشمس . رواه أحمد ، وابن ماجه ، والترمذي ، وحسنه . وروى البيهقي عن نافع : أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يقول : لا نرم في الايام الثلاثة ، حتى تزول الشمس . فإن أخر الرمي إلى الليل ، كره له ذلك ، ورمى في الليل إلى طلوع شمس الغد . وهذا متفق عليه بين أئمة المذاهب ، سوى أبي حنيفة ، فإنه أجاز الرمي في اليوم الثالث قبل الزوال . لحديث ضعيف عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إذا انتفخ النهار من يوم النفر الاخر ، حل الرمي ، والصدر ( 1 الوقوف والدعاء بعد الرمي في أيام التشريق : يستحب الوقوف بعد الرمي مستقبلا القبلة ، داعيا الله ، وحامدا له مستغفرا لنفسه ولاخوانه المؤمنين .
( 1 ) ” الانتفاخ ” : الارتفاع ، ” الصدر ” الانصراف من منى .
لما رواه أحمد ، والبخاري ، عن سالم بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه : أن رسول صلى الله عليه وسلم ، كان إذا رمى الجمرة الاولى ، التي تلي المسجد ، رماها بسبع حصيات ، يكبر مع كل حصاة ، ثم ينصرف ، ذات اليسار إلى بطن الوادي فيقف ويستقبل القبلة ، رافعا يديه يدعو ، وكان يطيل الوقوف ، ثم يرمي الثانية بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ، ثم ينصرف ذات اليسار إلى بطن الوادي ، فيقف ، ويستقبل القبلة ، رافعا يديه ثم يمضي حتى يأتي الجمرة التي عند العقبة فيرميها بسبع حصيات ، يكبر عند كل حصاة ثم ينصرف ولا يقف . وفي الحديث أنه لا يقف بعد رمي جمرة العقبة ، وإنما يقف بعد رمي الجمرتين الاخريين . وقد وضع العلماء لذلك أصلا فقالوا : إن كل رمي ليس بعده رمي في ذلك اليوم لا يقف عنده ، وكل رمي بعده رمي في اليوم نفسه يقف عنده . وروى ابن ماجه ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رمى جمرة العقبة ، مضى ولم يقف .
الترتيب في الرمي : الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه بدأ رمي الجمرة الاولى التي تلي منى ، ثم الجمرة الوسطى التي تليها ، ثم رمى جمرة العقبة . وثبت عنه أنه قال : ” خذوا عني مناسككم ” . فاستدل بهذا الائمة الثلاثة على اشتراط الترتيب بين الجمرات وأنها ترمى هكذا ، مرتبة ، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمختار عند الاحناف : أن الترتيب سنة .
استحباب التكبير والدعاء مع كل حصاة ووضعها بين أصابعه عن عبد الله بن مسعود ، وابن عمر رضي الله عنهما : أنهما كانا يقولان – عند رمي جمرة العقبة – اللهم اجعله حجا مبرورا وذنبا مغفورا . وعن إبراهيم أنه قال : كانوا يحبون للرجل – إذا رمى جمرة العقبة – أن يقول : اللهم اجعله حجا مبرورا وذنبا مغفورا . فقيل له : تقول ذلك عند كل جمرة ؟ قال : نعم . وعن عطاء قال : إذا رميت فكبر ، وأتبع الرمي التكبيرة . روى ذلك سعيد بن منصور . وفي حديث جابر رضي الله عنه عند مسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكبر مع كل حصاة . قال في الفتح : وأجمعوا : على أن من لم يكبر لا شئ عليه . وعن سلمان بن الاحوص عن أمه ، قالت : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند جمرة العقبة راكبا ، ورأيت بين أصابعه حجرا فرمى ، ورمى الناس معه . رواه أبو داود .
النيابة في الرمي : من كان عنده عذر يمنعه من مباشرة الرمي ، كالمرض ونحوه ، استناب من يرمي عنه . قال جابر رضي الله عنه : حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا النساء والصبيان ، فلبينا عن الصبيان ، ورمينا عنهم . رواه ابن ماجه . المبيت بمنى البيات بمنى واجب في الليالي الثلاث ، أو ليلتي الحادي عشر ، والثاني عشر ، عند الائمة الثلاثة . ويرى الاحناف أن البيات سنة . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : إذا رميت الجمار فبت حيث شئت . رواه ابن أبي شيبة . وعن مجاهد : لا بأس بأن يكون أول الليل بمكة ، وآخره بمنى . أو أول الليل بمنى ، وآخره بمكة . وقال ابن حزم : ومن لم يبت ليالي منى بمنى فقد أساء ، ولا شئ عليه واتفقوا على أنه يسقط عن ذوي الاعذار كالسقاة ورعاة الابل فلا يلزمهم بتركه شئ . وقد استأذن العباس النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته ، فأذن له . رواه البخاري وغيره . وعن عاصم بن عدي أنه صلى الله عليه وسلم رخص للرعاء أن يتركوا المبيت بمنى . رواه أصحاب السنن ، وصححه الترمذي .
متى يرجع من منى ؟ يرجع من ” منى ” إلى مكة قبل غروب الشمس ، من اليوم الثاني عشر بعد الرمي ، عند الائمة الثلاثة . وعند الاحناف : يرجع إلى مكة ما لم يطلع الفجر من اليوم الثالث عشر من ذي الحجة . لكن يكره النفر بعد الغروب ، لمخالفة السنة ولا شئ عليه . الهدي الهدي هو ما يهدى من النعم إلى الحرم تقربا إلى الله عزوجل ، قال الله تعالى ” والبدن ( 1 ) جعلناها لكم من شعائر ( 2 ) الله ، لكم فيها خير ، فاذكروا اسم الله عليها صواف ، فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع ( 3 ) والمعتر ( 4 ) كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون . لن ينال الله لحومها ولادماؤها ، ولكن يناله التقوى منكم ” . وقال عمر رضي الله عنه : أهدوا ، فإن الله يحب الهدي . وأهدى رسول الله عليه وسلم مائة من الابل ، وكان هديه تطوعا .
( 1 ) ” البان ” : الابل . ( 2 ) ” الشعائر ” أعمال الحج ، وكل ما جعل علما لطاعة الله . ( 3 ) ” القانع ” أي السائل . ( 4 ) ” المعتر ” الذي يتعرض لاكل اللحم .
الافضل فيه : أجمع العلماء على أن الهدي لا يكون إلا من النعم ( 1 ) ، واتفقوا : على أن الافضل الابل ، ثم البقر ، ثم الغنم . على هذا الترتيب . لان الابل أنفع للفقراء ، لعظمها ، والبقر أنفع من الشاة كذلك . واختلفوا في الافضل للشخص الواحد : هل يهدي سبع بدنة ، أو سبع بقرة أو يهدي شاة ؟ والظاهر أن الاعتبار بما هو أنفع للفقراء . أقل ما يجزئ في الهدي : للمرء أن يهدي للحرم ما يشاء من النعم . وقد أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة من الابل وكان هديه هدي تطوع . وأقل ما يجزئ عن الواحد شاة ، أو سبع بدنة ، أو سبع بقرة ، فإن البقرة أو البدنة تجزئ عن سبعة . قال جابر رضي الله عنه : حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحرنا البعير عن سبعة ، والبقرة عن سبعة . رواه أحمد ، ومسلم . ولا يشترط في الشركاء أن يكونوا جميعا ممن يريدون القربة إلى الله تعالى . بل لو أراد بعضهم التقرب ، وأراد البعض اللحم جاز . خلافا للاحناف الذين يشترطون التقرب إلى الله ، من جميع الشركاء .
متى تجب البدنة ؟ ولا تجب البدنة إلا إذا طاف للزيارة جنبا ، أو حائضا ، أو نفساء ، أو جامع بعد الوقوف بعرفة وقبل الحلق ، أو نذر بدنة أو جزورا ، ومن لم يحد بدنة فعليه أن يشتري سبع شياه . فعن ابن عباس رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه رجل فقال : إن علي بدنة ، وأنا موسر بها ، ولا أجدها فأشتريها ، فأمره صلى الله عليه وسلم أن يبتاع سبع شياه فيذبحهن . رواه أحمد ، وابن ماجه بسند صحيح .
( 1 ) ” والنعم ” هي الابل ، والبقر ، والغنم ، والذكر ، أو الانثى ، سواء في جواز الاهداء .
أقسامه : ينقسم الهدي إلى مستحب ، وواجب . فالهدي المستحب : للحاج المفرد ، والمعتمر المفرد . والهدي الواجب : أقسامه كالآتي :
1 و 2 – واجب على القارن . والمتمتع .
3 – واجب على من ترك واجبا من واجبات الحج ، كرمي الجمار والاحرام من الميقات والجمع بين الليل والنهار في الوقوف بعرفة ، والمبيت بالمزدلفة ، أو منى ، أو ترك طواف الوداع .
4 – واجب على من ارتكب محظورا من محظورات الاحرام ، غير الوطء ، كالتطيب والحلق .
5 – واجب بالجنابة على الحرم ، كالتعرض لصيده ، أو قطع شجره ، وكل ذلك مبين في موضعه كما تقدم .
شروط الهدي : يشترط في الهدي الشروط الآتية :
1 – أن يكون ثنيا ، إذا كان من غير الضأن ، أما الضأن فإنه يجزئ منه الجذع فما فوقه . وهوما له ستة أشهر ، وكان سمينا . والثني من الابل : ماله خمس سنين ، ومن البقر : ما له سنتان ، ومن المعز ما له سنة تامة ، فهذه يجزئ منها الثني فما فوقه .
2 – أن يكون سليما ، فلا تجزئ فيه العوراء ولا العرجاء ولا الجرباء ، ولاالعجفاء ( 1 ) . وعن الحسن : أنهم قالوا : إذا اشترى الرجل البدنة ، أو الاضحية ، وهي وافية ، فأصابها عور ، أو عرج ، أو عجف قبل يوم النحر فليذبحها وقد أجزأته . رواه سعيد بن منصور .
استحباب اختيار الهدي : روى مالك عن هشام بن عروة ، عن أبيه . أنه كان يقول لبنيه : يا بني لايهد أحدكم لله تعالى من البدن شيئا . يستحيي أن يهديه لكريمه ( 1 ) ، فإن الله أكرم الكرماء ، وأحق من اختير له . وروى سعيد بن منصور ان ابن عمر رضي الله عنهما سار فيما بين مكة على ناقة بختية ( 2 ) ، فقال لها : بخ بخ ( 3 ) ، فأعجبته فنزل عنها ، وأشعرها ، وأهداها .
إشعار الهدي وتقليده : الاشعار : هو أن يشق أحد جنبي سنام البدنة أو البقرة ، إن كان لها سنام حتى يسيل دمها ويجعل ذلك علامة لكونها هديا فلا يتعرض لها . والتقليد : هو أن يجعل في عنق الهدي قطعة جلد ونحوها ليعرف بها أنه هدي . وقد أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم غنما ، وقلدها ، وقد بعث بها مع أبي بكر رضي الله عنه عندما حج سنة تسع . وثبت عنه : أنه صلى الله عليه وسلم ، قلد الهدي ، وأشعره وأحرم بالعمرة وقت الحديبية . وقد استحب الاشعار عامة العلماء ، ما عدا أبا حنيفة .
الحكمة في الاشعار والتقليد : والحكمة فيهما تعظيم شعائر الله ، وإظهارها ، وإعلام الناس بأنها قرابين تساق إلى بيته ، تذبح له ويتقرب بها إليه . ركوب الهدى : يجوز ركوب البدن ، والانتفاع بها .
( 2 ) البختية : الانثى من الجمال .
( 3 ) بخ بخ : كلمة تقال عند المدح والرضا بالشئ ، وتكرر للمبالغة ، وبخبخت الرجل : إذا قلت له ذلك .
لقول الله تعالى : ( لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق ) . قال الضحاك ، وعطاء : المنافع فيها الركوب عليها إذا احتاج ، وفي أوبارها وألبانها . والاجل المسمى : أن تقلد فتصير هديا . ومحلها إلى البيت العتيق ، قالا : يوم النحر ينحر بمنى . وعن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة ، فقال : ” اركبها ” . قال : إنها بدنة . فقال : ” اركبها ويلك ” : في الثانية ، أو الثالثة . رواه البخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، والنسائي . وهذا مذهب أحمد ، وإسحاق ، ومشهور مذهب مالك . وقال الشافعي : يركبها إذا اضطر إليها .
وقت الذبح : اختلف العلماء في وقت ذبح الهدي . فعند الشافعي : أن وقت ذبحه يوم النحر ، وأيام التشريق لقوله صلى الله عليه وسلم : ” وكل أيام التشريق ذبح ” رواه أحمد . فإن فات وقته ، ذبح الهدي الواجب قضاء . وعند مالك وأحمد ، وقت ذبح الهدي – سواء أكان ذبح الهدي واجبا ، أم تطوعا – أيام النحر . وهذا رأي الاحناف بالنسبة لهدي التمتع والقران . وأمادم النذر ، والكفارات ، والتطوع فيذبح في أي وقت . وحكي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، والنخعي : وقتها من يوم النحر ، إلى آخر ذي الحجة .
مكان الذبح : الهدي – سواء أكان واجبا ، أم تطوعا – لا يذبح إلا في الحرم وللمهدي أن يذبح في أي موضع منه . فعن جابر رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” كل منى منحر ، وكل المزدلفة موقف ، وكل فجاج مكة طرق ، ومنحر ” . رواه أبو داود ، وابن ماجه . والاولى بالنسبة للحاج ، أن يذبح بمنى ، وبالنسبة للمعتمر أن يذبح عند المروة ، لانها موضع تحلل كل منهما . فعن مالك أنه بلغه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال – بمنى – ” هذا المنحر ، وكل منى منحر ” وفي العمرة : هذا المنحر – يعني المروة – وكل فجاج مكة وطرقها منحر . استحباب نحر الابل ، وذبح غيرها : يستحب أن تنحر الابل ، وهي قائمة ، معقولة اليد اليسرى وذلك للاحاديث الآتية :
1 – لما رواه مسلم ، عن زياد بن جبير : أن ابن عمر رضي الله عنهما أتى على رجل ، وهو ينحر بدنته باركة ، فقال : ابعثها قياما مقيدة ، سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم .
2 – وعن جابر رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، كانوا ينحرون البدنة معقولة اليسرى ، قائمة على ما بقي منها . رواه أبو داود .
3 – وعن ابن عباس رضي الله عنهما ، في قوله تعالى : ( فاذكروا اسم الله عليها صواف ) أي قياما على ثلاث . رواه الحاكم . أما البقر والغنم ، فيستحب ذبحها مضطجعة . فإن ذبح ما ينحر ، ونحر ما يذبح ، قيل : يكره ، وقيل : لا يكره . ويستحب أن يذبحها بنفسه ، إن كان يحسن الذبح ، وإلا فيندب له أن يشهده . لا يعطى الجزار الاجرة من الهدي : لا يجوز أن يعطى الجزار الاجرة من الهدي ، ولا بأس بالتصدق عليه منه . لقول علي رضي الله عنه : أمرني رسولا لله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه ، و أقسم جلودها وجلالها ، وأمرني ألا أعطي الجزار منها شيئا ، وقال : ” نحن نعطيه من عندنا ” رواه الجماعة . وفي الحديث ما يدل على أنه يجوز أنه ينيب عنه من يقوم بذبح هديه ، وتقسيم لحمه ، وجلده وجلاله ( 1 ) . وأنه لا يجوز أن يعطى الجزار منه شيئا ، على معنى الاجرة ، ولكن يعطى أجرة عمله ، بدليل قوله : ” نعطيه من عندنا ” . وروي عن الحسن أنه قال لا بأس أن يعطى الجازر الجلد .
الاكل من لحوم الهدي : أمر الله بالاكل من لحوم الهدي فقال : ” فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ” . وهذا الامر يتناول – بظاهره – هدي الواجب ، وهدي التطوع . وقد اختلف فقهاء الامصار في ذلك . فذهب أبو حنيفة وأحمد : إلى جواز الاكل من هدي المتعة ، وهدي القران ، وهدي التطوع ، ولا يأكل مما سواها . وقال مالك : يأكل من الهدي الذي ساقه لفساد حجه ، ولفوات الحج . ومن هدي المتمتع ، ومن الهدي كله ، إلا فدية الاذى ، وجزاء الصيد . وما نذره للمساكين ، وهدي التطوع ، إذا عطب قبل محله . وعند الشافعي : لايجوز الاكل من الهدي الواجب مثل الدم الواجب ، في جزاء الصيد ، وإفساد الحج وهدي التمتع والقران ، وكذلك ما كان نذرا أوجبه على نفسه . أماماكان تطوعا ، فله أن يأكل منه ويهدي ، ويتصدق .
مقدار ما يأكله من الهدي : للمهدي أن يأكل من هديه الذي يباح له الاكل منه أي مقدار يشاء أن يأكله ، بلا تحديد ، وله كذلك أن يهدي أو يتصدق بما يراه . وقيل : يأكل النصف ، ويتصدق بالنصف .
( 1 ) اتفق الائمة : على عدم جواز بيع جلد الهدي ولاشئ من اجزائه .
وقيل : يقسمه أثلاثا ، فيأكل الثلث ، ويهدي الثلث ، ويتصدق بالثلث .
الحلق أو التقصير ثبت الحلق والتقصير بالكتاب ، والسنة والاجماع . قال الله تعالى : ( لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون ) . وروى البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” رحم الله المحلقين ” . قالوا : والمقصرين يا رسول الله ؟ قال : ” رحم الله المحلقين ” قالوا : والمقصرين يا رسول الله ؟ قال : ” رحم الله المحلقين ” . قالوا : والمقصرين يا رسول الله ؟ قال : ” والمقصرين ( 1 ) ” . ورويا عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم حلق ، وحلق طائفة من أصحابه وقصر بعضهم . والمقصود بالحلق إزالة شعر الرأس بالموسى ونحوه ، أو بالنتف ، ولو اقتصر على ثلاث شعرات جاز . والمراد بالتقصير أن يأخذ من شعر الرأس قدر الانملة ( 2 ) . وقد اختلف جمهور الفقهاء في حكمه . فذهب أكثرهم : إلى أنه واجب ، يجبر تركه بدم . وذهبت الشافعية : إلى أنه ركن من أركان الحج .
وقته : وقته للحاج بعد رمي جمرة العقبة يوم النحر ، فإذا كان معه هدي حلق بعد الذبح .
( 1 ) قيل : في سبب تكرار الدعاء للمحلقين هو الحث عليه ، والتأكيد لندبته ، لانه أبلغ في العبادة ، وأدل على صدق النية في التذلل لله ، لان المقصر مبق لنفسه من الزينة ، ثم جعل للمقصرين نصيبا لئلا يخيب أحد من أمته من صالح دعوته . ( 2 ) واختار ابن المنذر : أنه يجزئه ما يقع عليه اسم التقصير ، لتناول اللفظ له .
في حديث معمر بن عبد الله : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نحر هديه بمنى قال : ” أمرني أن أحلقه ” . رواه أحمد والطبراني . ووقته في العمرة بعد أن يفرغ من السعي ، بين الصفا والمروة ، ولمن معه هدي بعد ذبحه . ويجب أن يكون في الحرم ، وفي أيام النحر عند أبي حنيفة ومالك ، ورواية عن أحمد ، للحديث المتقدم . وعند الشافعي ومحمد بن الحسن ، والمشهور من مذهب أحمد : يجب أن يكون الخلق أو التقصير بالحرم دون أيام النحر ، فإن أخر الحلق عن أيام النحر جاز ولا شئ عليه .
ما يستحب فيه : يستحب في الحلق أن يبدأ بالشق الايمن ، ثم الايسر ويستقبل القبلة ، ويكبر ويصلي بعد الفراغ منه . قال وكيع : قال لي أبو حنيفة : أخطأت ، في خمسة أبواب من المناسك ، فعلمنيها حجام ، وذلك أني حين أردت أن أحلق رأسي وقفت على حجام ، فقلت له بكم تحلق رأسي ؟ فقال أعراقي أنت ؟ قلت : نعم . قال : النسك لا يشارط عليه . اجلس ، فجلست منحرفا عن القبلة ، فقال لي : حرك وجهك إلى القبلة . وأردت أن أحلق رأسي من الجانب الايسر ، فقال : أدر الشق الايمن من رأسك ، فأدرته ، وجعل يحلق وأنا ساكت ، فقال لي : كبر ، فجعلت أكبر حتى قمت لا ذهب ، فقال لي : أين تريد ؟ فقلت : رحلي . قال صل ركعتين ثم امض ، فقلت : ما ينبغي أن يكون ما رأيت من عقل هذا الحجام ، فقلت له : من أين لك ما أمرتني به ، قال : رأيت عطاء بن أبي رباح يفعل هذا . ذكره المحب الطبري . استحباب امرار الموسى على رأس الاصلع : ذهب جمهور العلماء : إلى أنه يستحب للاصلع الذي لاشعر على رأسه أن يمر الموسى على رأسه . قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم : على أن الاصلع يمر الموسى على رأسه . وقال أبو حنيفة : إن إمرار الموسى على رأسه واجب . استحباب تقليم الاظفار والاخذ من الشارب : يستحب لمن حلق شعره أو قصره أن يأخذ من شاربه ويقلم أظافره ، فقد كان ابن عمر رضي الله عنهما ، إذا حلق في حج أو عمرة ، أخذ من لحيته وشاربه . وقال ابن النذر : ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما حلق رأسه قلم أظفاره . أمر المرأة بالتقصير ونهيها عن الحلق : روى أبو داود وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” ليس على النساء حلق وإنما على النساء التقصير . ” حسنه الحافظ . قال ابن المنذر : أجمع على هذا أهل العلم ، وذلك لان الحلق في حقهن مثلة . القدر الذي تأخذه المرأة من رأسها : عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : المرأة إذا أرادت أن تقصر جمعت شعرها إلى مقدم رأسها ثم أخذت منه أنملة . وقال عطاء : إذا قصرت المرأة شعرها تأخذ من أطرافه ، من طويله وقصيره . رواهما سعيد بن منصور . وقيل : لا حد لما تأخذه المرأة من شعرها . وقال الشافعية : أقل ما يجزئ ، ثلاث شعرات .
طواف الافاضة أجمع المسلمون على أن طواف الافاضة ركن من أركان الحج ، وأن الحاج إذا لم يفعله بضل حجه . لقول الله تعالى : ( وليطوفوا بالبيت العتيق ) . ولابد من تعيين النية له ، عند أحمد . والائمة الثلاثة : يرون أن نية الحج تسري عليه ، وأنه يصح من الحاج ويجزئه ، وإن لم ينوه نفسه . وجمهور العلماء : يرى أنه سبعة أشواط .
ويرى أبو حنيفة : أن ركن الحج من ذلك أربعة أشواط لو تركها الحاج بطل حجه . وأما الثلاثة الباقية فهي واجبة ، وليست بركن . ولو ترك الحاج هذه الثلاثة ، أو واحدا منها ، فقد ترك واجبا ، ولم يبطل حجه . وعليه دم .
وقته : وأول وقته نصف الليل ، من ليلة النحر ، عند الشافعي ، وأحمد ، ولا حد لآخره ، ولكن لا تحل له النساء حتى يطوف ، ولا يجب تأخيره – عن أيام التشريق – دم ، وإن كان يكره له ذلك . وأفضل وقت يؤدى فيه ، ضحوة النهار ، يوم النحر . وعند أبي حنيفة ومالك : أن وقته يدخل بطلوع فجر يوم النحر ، واختلفا في آخر وقته . فعند أبي حنيفة : يجب فعله في أي يوم من أيام النحر ، فإن أخره لزمه دم . وقال مالك : لا بأس بتأخيره إلى آخر أيام التشريق ، وتعجيله أفضل . ويمتد وقته إلى آخر شهر ذي الحجة ، فإن أخره عن ذلك لزمه دم ، وصح حجه ، لان جميع ذي الحجة عنده من أشهر الحج .
تعجيل الافاضة للنساء : يستحب تعجيل الافاضة للنساء يوم النحر ، إذا كن يخفن مبادرة الحيض . وكانت عائشة تأمر النساء بتعجيل الافاضة يوم النحر ، مخافة الحيض . وقال عطاء : إذا خافت المرأة الحيضة فلتزر البيت قبل أن ترمي الجمرة ، وقبل أن تذبح . ولا بأس من استعمال الدواء ، ليرتفع حيضها حتى تستطيع الطواف . روى سعيد بن منصور عن ابن عمر رضي الله عنهما : أنه سئل عن المرأة تشري الدواء ، ليرتفع حيضها ، لتنفر ، فلم ير به بأسا ونعت لهن ماء الاراك . قال محب الدين الطبري : وإذا اعتد بارتفاعه في هذه الصورة ، اعتد بارتفاعه في انقضاء العدة وسائر الصور . وكذلك في شرب دواء يجلب الحيض ، إلحاقا به .
النزول بالمحصب ( 1 ) ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نفر من منى إلى مكة نزل بالمحصب ، وصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، ورقد به رقدة . وأن ابن عمر كان يفعل ذلك . وقد اختلف العلماء في استحبابه . فقالت عائشة : إنما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم المحصب ، ليكون أسمح ( 2 ) لخروجه ، وليس بسنة ، فمن شاء نزله ، ومن شاء لم ينزله . وقال الخطابي : وكان هذا شيئا يفعل ، ثم ترك . وقال الترمذي : وقد استحب بعض أهل العلم نزول الابطح ، من غير أن يروا ذلك واجبا ، إلامن أحب ذلك . والحكمة في النزول في هذا المكان ، شكر الله تعالى ، على ما منح نبيه صلى الله عليه وسلم من الظهور فيه على أعدائه الذين تقاسموا فيه على بني هاشم بني المطلب ، ان لا يناكحوهم لا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم النبي صلى الله عليه وسلم . قال ابن القيم : فقصد النبي صلى الله عليه وسلم إظهار شعائر الاسلام في المكان الذي أظهروا فيه شعائر الكفر ، والعداوة لله ورسوله . وهذه كانت عادته ، صلوات الله وسلامه عليه ، أن يقيم شعائر التوحيد في مواضع شعائر الكفر والشرك . كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم : أن يبنى مسجد الطائف ، موضع اللات والعزى .
( 1 ) المحصب : هو الابطح ، أو البطحاء ، وادبين جبل النور ، والحجون . ( 2 ) أسمح : أي أسهل .
العمرة : مأخوذ من الاعتمار ، وهو الزيارة ، والمقصود بها هنا زيارة الكعبة والطواف حولها ، والسعي بين الصفا والمروة ، والحلق ، أو التقصير . وقد أجمع العلماء : على أنها مشروعة . وعن ابن عباس رضي الله عنهما . أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” عمرة في رمضان تعدل حجة ( 1 ) ” رواه أحمد ، وابن ماجه . وعن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال : ” العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما ، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ” رواه أحمد ، والبخاري ، ومسلم . وتقدم حديث : ” تابعوا بين الحج والعمرة ” . تكرارها : 1 – قال نافع : اعتمر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أعواما في عهد ابن الزبير ، عمرتين في كل عام . 2 – وقال القاسم : إن عائشة رضي الله عنها اعتمرت في سنة ثلاث مرات . فسئل : هل عاب ذلك عليها أحد ؟ قال : سبحان الله . أم المؤمنين ؟ ! ! وإلى هذا : ذهب أكثر أهل العلم . وكره مالك تكرارها في العام أكثر من مرة . جوازها قبل الحج وفي أشهره : ويجوز للمعتمر أن يعتمر في أشهر الحج ، من غير أن يحج ، فقد اعتمر
( 1 ) أي أن ثواب أدائها في رمضان يعدل ثواب حجة غير مفروضة وأداؤها لا يسقط الحج المفروض .
عمر في شوال ، ورجع إلى المدينة ، دون أن يحج . كما يجوز له الاعتمار قبل أن يحج ، كما فعل عمر رضي الله عنه . قال طاوس : كان أهل الجاهلية يرون العمرة في أشهر الحج أفجر الفجور ، ويقولون : إذا انفسخ صفر ، و برأ الدبر ( 1 ) وعفا الاثر ( 2 ) حلت العمرة لمن اعتمر . فلما كان الاسلام أمر الناس أن يعتمروا في أشهر الحج ، فدخلت العمرة في أشهر الحج إلى يوم القيامة .
عدد عمره صلى الله عليه وسلم :
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر : عمرة الحديبية ، وعمرة القضاء ، والثالثة من الجعرانة ، والرابعة مع حجته . رواه أحمد ، وأبو داود ، وابن ماجه ، بسند رجاله ثقات . حكمها : ذهب الاحناف ، ومالك : إلى أن العمرة سنة . لحديث جابر رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن العمرة أواجبة هي ؟ قال : ” لا ، وأن تعتمروا هو أفضل ” رواه أحمد ، والترمذي ، وقال : حديث حسن صحيح . وعند الشافعية ، وأحمد : أنها فرض . لقول الله تعالى : ( وأتموا الحج والعمرة لله ) . وقد عطفت على الحج ، وهو فرض ، فهي فرض كذلك ، والاول أرجح . قال في ” فتح العلام ” : وفي الباب أحاديث لا تقوم بها حجة . ونقل الترمذي عن الشافعي أنه قال : ليس في العمرة شئ ثابت . إنها تطوع .
( 1 ) ” الدبر ” : تقرح خف البعير . وقيل : القرح يكون في ظهر الدابة . ( 2 ) ” عفا الاثر ” : أي زال أثر الحج من الطريق ، وانمحى بعد رجوعهم .
وقتها : ذهب جمهور العلماء إلى أن وقت العمرة جميع أيام السنة . فيجوز أداؤها في يوم من أيامها . وذهب أبو حنيفة إلى كراهتها في خمسة أيام : يوم عرفة ، ويوم النحر ، وأيام التشريق الثلاثة . وذهب أبو يوسف إلى كراهتها في يوم عرفة ، وثلاثة أيام بعده ، واتفقوا على جوازها في أشهر الحج . 1 – روى البخاري عن عكرمة بن خالد قال : سألت عبد الله بن عمر رضيا لله عنهما ، عن العمرة قبل الحج فقال : لا بأس على أحد أن يعتمر قبل الحج ، فقد اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يحج . 2 – وروي عن جابر رضي الله عنه أن عائشة حاضت فنسكت المناسك كلها ، غير أنها لم تطف بالبيت . فلما طهرت وطافت قالت : يا رسول الله ، أتنطلقون بحج وعمرة ، وأنطلق بالحج ؟ فأمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج معها إلى التنعيم ، فاعتمرت بعد الحج في ذي الحجة . وأفضل أوقاتها رمضان لما تقدم . ميقاتها : الذي يريد العمرة إما أن يكون خارج مواقيت الحج المتقدمة ، أو يكون داخلها ، فإن كان خارجها ، فلا يحل له مجاوزتها بلا إحرام . لما رواه البخاري : أن زيد بن جبير أتى عبد الله بن عمر ، فسأله : من أين يجوز أن أعتمر ؟ قال : فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم لاهل نجد ” قرنا ” ولاهل المدينة ” ذا الحليفة ” ولاهل الشام ” الجحفة ” . وإن كان داخل المواقيت ، فميقاته في العمرة الحل ، ولو كان بالحرم ، لحديث البخاري المتقدم ، وفيه : أن عائشة خرجت إلى التنيعم وأحرمت فيه ، وأن ذلك كان أمرا من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
طواف الوداع طواف الوداع ، سمي بهذا الاسم ، لانه لتوديع البيت ، ويطلق عليه طواف الصدر ، لانه عند صدور الناس من مكة ، وهو طواف لا رمل فيه ، وهو آخر ما يفعله الحاج الغير المكي ( 1 ) عند إرادة السفر من مكة . روى مالك في الموطأ عن عمر رضي الله عنه أنه قال : آخر النسك الطواف بالبيت ( 2 ) . أما المكي والحائض ، فإنه لا يشرع في حقهما ، ولا يلزم بتركهما له شئ فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : رخص للحائض أن تنفر إذا حاضت . رواه البخاري ، ومسلم . وفي رواية قال : أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت ، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض . ورويا عن صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم : أنها حاضت فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : ” أحابستنا هي ؟ ” فقالوا : إنها قد أفاضت . قال : ” فلا إذا ” .
حكمه : اتفق العلماء : على أنه مشروع . لما رواه مسلم وأبو داود ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان الناس ينصرفون في كل وجه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ” لا ينفر أحدكم حتى يكون آخر عهده بالبيت ” . واختلفوا في حكمه : فقال مالك ، وداود ، و ابن المنذر : إنه سنة ، لا يجب بتركه شئ . وهو قول الشافعي . وقالت الاحناف ، والحنابلة ، ورواية عن الشافعي : إنه واجب ، يلزم بتركه دم .
( 1 ) أما المكي فإنه مقيم بمكة ، وملازم لها ، فلا وداع بالنسبة له . ( 2 ) قال في الروضة الندية : قال في الحجة ، والسرفيه تعظيم البيت ، فيكون هو الاول وهو الآخر ، تصويرا لكونه هو المقصود من السفر .
وقته : وقت طواف الوداع ، بعد أن يفرغ المرء من جميع أعماله ، ويريد السفر ، ليكون آخر عهده بالبيت . كما تقدم في الحديث . فإذا طاف الحاج سافر توا ( 1 ) دون أن يشتغل ببيع أو بشراء ولا يقيم زمنا ، فإن فعل شيئا من ذلك ، أعاده . اللهم إلا إذا قضى حاجة في طريقه ، أو اشترى شيئا لا غنى له عنه من طعام ، فلا يعيد لذلك . لان هذا لا يخرجه عن أن يكون آخر عهده بالبيت . ويستحب للمودع أن يدعو بالمأثور عن ابن عباس رضي الله عنهما وهو : ” اللهم إني عبدك ، وابن عبدك ، وابن أمتك حملتني على ما سخرت لي من خلقك ، وسترتني في بلادك حتى بلغتني – بنعمتك – إلى بيتك ، وأعنتني على أداء نسكي ، فإن كنت رضيت عني فازدد عني رضا ، وإلا فمن الآن فارض عني قبل أن تنأى عن بيتك داري . فهذا أو ان انصرافي إن أذنت لي غير مستبدل بك ولاببيتك ، ولا راغب عنك ، ولا عن بيتك . اللهم فأصحبني العافية في بدني ، والصحة في جسمي ، والعصمة في ديني ، وأحسن منقلبي ، وارزقني طاعتك ما أبقيتني ، واجمع لي بين خيري الدنيا والآخرة ، إنك على كل شئ قدير ” . قال الشافعي : أحب ، إذا ودع البيت – أن يقف في الملتزم . وهوما بين الركن والباب . ثم ذكر الحديث .
كيفية أداء الحج إذا قارب الحاج الميقات استحب له أن يأخذ من شاربه ويقص شعره ، وأظافره ، ويغتسل ، أو يتوضأ ، ويتطيب ، ويلبس لباس الاحرام . فإذا بلغ الميقات صلى ركعتين وأحرم – أي نوى الحج ، إن كان مفردا ، أو العمرة إن كان متمتعا ، أوهما معا ، إن كان قارنا .
وهذا الاحرام ركن ، لا يصح النسك بدونه . أما تعيين نوع النسك ، من إفراد ، أو تمتع ، أن قران فليس فرضا . ولو أطلق النية ولم يعين نوعا خاصا صح إحرامه . وله أن يفعل أحد الانواع الثلاثة . بمجرد الاحرام تشرع له التلبية بصوت مرتفع ، كلما علا شرفا ، أو هبط واديا ، أو لقي ركبا ، أو أحدا ، وفي الاسحار ، وفي دبر كل صلاة . وعلى المحرم أن يتجنب الجماع ودواعيه ، ومخاصمة الرفاق وغيرهم ، والجدل فيما لا فائدة فيه ، وأن لا يتزوج ، ولا يزوج غيره . ويتجنب أيضا لبس المخيط والمحيط ، والخذاء الذي يستر ما فوق الكعبين . ولا يستر رأسه ولا يمس طيبا ، ولا يحلق شعرا . ولا يقص ظفرا ولا يتعرض لصيد البر مطلقا ، ولا لشجر الحرم وحشيشه . فإذا دخل مكة المكرمة استحب له أن يدخلها من أعلاها بعد أن يغتسل من بئر ذي طوى ، بالزاهر ، إن تيسر له . ثم يتجه إلى الكعبة فيدخلها من ” باب السلام ” ذاكرا أدعية دخول المسجد ، ومراعيا آداب الدخول ، وملتزما الخشوع ، والتواضع ، والتلبية . فإذا وقع بصره على الكعبة ، رفع يديه وسأل الله من فضله ، وذكر الدعاء المستحب في ذلك . ويقصد رأسا إلى الحجر الاسود ، فيقبله بغير صوت أو يستلمه بيده ويقبلها ، فإن لم يستطع ذلك أشار إليه . ثم يقف بحذائه ، ملتزما الذكر المسنون ، والادعية المأثورة ، ثم يشرع في الطواف . ويستحب له أن يضطبع ويرمل في الاشواط الثلاثة الاول . ويمشي على هينته في الاشواط الاربعة الباقية . ويسن له استلام الركن اليماني ، وتقبيل الحجر الاسود في كل شوط . فإذا فرغ من طوافه . توجه إلى مقام إبراهيم تاليا قول الله تعالى : ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) . فيصلي ركعتي الطواف . ثم يأتي ” زمزم ” فيشرب من مائها ويتضلع منه . وبعد ذلك يأتي ” الملتزم ” فيدعو الله عزوجل بما شاء من خيري الدنيا والآخرة ، ثم يستلم الحجر ويقبله ويخرج من باب ” الصفا ” إلى ” الصفا ” تاليا قول الله تعالى : ( إن الصفا والمروة من شعائر الله ) الآية . ويصعد عليه ، ويتجه إلى الكعبة ، فيدعو بالدعاء المأثور ثم ينزل فيمشي في السعي ، ذاكرا داعيا بما شاء . فإذا بلغ ” ما بين الميلين ” هرول ، ثم يعود ما شيا على رسله حتى يبلغ المروة ، فيصعد السلم ويتجه إلى الكعبة ، داعيا ، ذاكرا . وهذا هو الشوط الاول . وعليه أن يفعل ذلك حتى يستكمل سبعة أشواط . وهذا السعي واجب على الارجح ، وعلى تاركه – كله أو بعضه – دم . فإذا كان المحرم متمتعا حلق رأسه أو قصر . وبهذا تتم عمرته ، ويحل له ما كان محظورا من محرمات الاحرام ، حتى النساء . أما القارن والمفرد فيبقيان على إحرامهما . وفي اليوم الثامن من ذي الحجة ، يحرم المتمتع من منزله . ويخرج – هو وغيره ممن بقي على إحرامه – إلى منى ، فيبيت بها . فإذا طلعت الشمس ذهب إلى ” عرفات ” ونزل عند مسجد ” نمرة . واغتسل ، وصلى الظهر والعصر جمع تقديم مع الامام ، يقصر فيهما الصلاة ” هذا إذا تيسر له أن يصلي مع الامام : وإلا صلى جمعا وقصرا ، حسب استطاعته . ولايبدأ الوقوف بعرفة إلا بعد الزوال . فيقف بعرفة عند الصخرات ، أو قريبا منها . فإن هذا موضع وقوف النبي صلى الله عليه وسلم . والوقوف ب ” عرفة ” هو ركن الحج الاعظم . ولايسن ولا ينبغي صعود جبل الرحمة . ويستقبل القبلة ، ويأخذ في الدعاء ، والذكر ، والابتهال حتى يدخل الليل . فإذا دخل الليل أفاض إلى ” المزدلفة ” فيصلي بها المغرب والعشاء جمع تأخير . ويبيت بها . فإذا طلع الفجر وقف بالمشعر الحرام . وذكر الله كثيرا حتى يسفر الصبح ، فينصرف بعد أن يستحضر الجمرات ، ويعود إلى ” منى ” . والوقوف بالمشعر الحرام واجب ، يلزم بتركه دم . وبعد طلوع الشمس يرمي جمرة العقبة بسبع حصيات . ثم يذبح هديه – إن أمكنه – ويحلق شعره أو يقصره . وبالحلق يحل له كل ما كان محرما عليه ، ما عدا النساء . ثم يعود إلى مكة ، فيطوف بها طواف الافاضة ، وهو طواف الركن ، فيطوف – كما طاف – طواف القدوم . ويسمى هذا الطواف أيضا طواف الزيارة ، وإن كان متمتعا سعى بعد الطواف . وإن كان مفردا ، أو قارنا ، وكان قد سعى عند القدوم ، فلا يلزمه سعي آخر . وبعد هذا الطواف يحل له كل شئ ، حتى النساء . ثم يعود إلى ” منى ” فيبيت بها . والمبيت بها واجب ، يلزم بتركه دم . وإذا زالت الشمس من اليوم الحادي عشر من ذي الحجة رمى الجمرات الثلاث ، مبتدئا بالجمرة التي تلي ” منى ” ثم يرمي الجمرة الوسطى . ويقف بعد الرمي ، داعيا ذاكرا ، ثم يرمي جمرة العقبة ولا يقف عندها . وينبغي أن يرمي كل جمرة بسبع حصيات قبل الغروب . ويفعل في اليوم الثاني عشر مثل ذلك . ثم هو مخير بين أن ينزل إلى مكة قبل غروب اليوم الثاني عشر ، وبين أن يبيت ويرمي ، في اليوم الثالث عشر . ورمي الجمار واجب يجبر تركه بالدم . فإذا عاد إلى مكة وأراد العودة إلى بلاده طاف طواف الوداع ، وهذا الطواف واجب . وعلى تاركه أن يعود إلى مكة ليطوف طواف الوداع إن أمكنه الرجوع ، ولم يكن قد تجاوز الميقات ، وإلا ذبح شاة . ويؤخذ من كل ما تقدم أن أعمال الحج والعمرة ، هي الاحرام من الميقات ، والطواف والسعي ، والحلق ، وبهذا تنتهي أعمال العمرة . ويزيد عليها الحج الوقوف بعرفة ، ورمي الجمار ، وطواف الافاضة ، والمبيت ب ” منى ” ، والذبح ، والحلق أو التقصير . هذه هي خلاصة أعمال الحج والعمرة . استحباب تعجيل العودة عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” السفر قطعة من العذاب ، يمنع أحدكم طعامه وشرابه ، فإذا قضى أحدكم نهمته ( 1 ) فليعجل إلى أهله ” رواه البخاري ، ومسلم . وعن عائشة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” إذا قضى أحدكم حجه فليتعجل إلى أهله ، فإنه أعظم لاجره ” . رواه الدارقطني . وروى مسلم عن العلاء بن الحضرمي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” يقيم المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثا ” .
الاحصار الاحصار : هو المنع والحبس ، قال الله تعالى : ( فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ) . وقد نزلت هذه الآية في حصر النبي صلى الله عليه وسلم ، ومنعه هو وأصحابه في الحديبية عن المسجد الحرام .
والمراد به : المنع عن الطواف في العمرة ، وعن الوقوف بعرفة ، أو طواف الافاضة في الحج .
( 1 ) ” نهمته ” بلوغ النهمة : شدة الشهوة في الحصول على الشئ .
وقد اختلف العلماء في السبب الذي يكون به الاحصار . قال مالك ، والشافعي : الاحصار لا يكون إلا بالعدو . لان الآية نزلت في إحصار النبي صلى الله عليه وسلم به . وقال ابن عباس : لا حصر إلا حصر العدو . وذهب أكثر العلماء – منهم الاحناف ، وأحمد – إلى أن الاحصار يكون من كل حابس يحبس الحاج عن البيت من عدو ( 1 ) أو مرض يزيد بالانتقال والحركة ، أو خوف ، أو ضياع النفقة أو موت محرم الزوجة في الطريق ، وغير ذلك من الاعذار المانعة ، حتى أفنى ابن مسعود رجلا لدغ ، بأنه محصر . واستدلوا بعموم قوله تعالى : ( فإن أحصرتم ) وأن سبب نزول الآية إحصار النبي صلى الله عليه وسلم بالعدو فإن العام لا يقصر على سببه . وهذا أقوى من غيره ، من المذاهب . على المحصر شاة فما فوقها : الآية صريحة في أن على المحصر أن يذبح ما استيسر من الهدي . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أحصر فحلق وجامع نساءه ونحر هديه ، حتى اعتمر عاما قابلا . رواه البخاري . وقد استدل بهذا الجمهور من العلماء على أن المحصر يجب عليه ذبح شاة أو بقرة أو نحر بدنة . وقال مالك : لا يجب . قال في ” فتح العلام ” : والحق معه ، فإنه لم يكن مع كل المحصرين هدي ، وهذا الهدي الذي كان معه صلى الله عليه وسلم ساقه من المدينة متنفلابه . وهو الذي أراده الله تعالى بقوله : ( والهدي معكوفا أن يبلغ محله ) . والآية لاتدل على الايجاب .
موضع ذبح هدي الاحصار : قال في ” فتح العلام ” : اختلف العلماء – هل نحره يوم الحديبية في الحل أو في الحرم ؟ وظاهر قوله تعالى : ( والهدي معكوفا أن يبلغ محله ) أنهم نحروه في الحل . وفي محل نحر الهدي للمحصر أقوال : الاول للجمهور : أنه يذبح هديه حيث يحل في حرم أو حل . الثاني للحنفية : أنه لا ينحره إلا في الحرم . الثالث لابن عباس وجماعة : أنه إن كان يستطيع البعث به إلى الحرم وجب عليه ، ولا يحل حتى ينحر في محله . وإن كان لا يستطيع البعث به إلى الحرم نحر في محل إحصاره . لا قضاء على المحصر إلا أن يكون عليه فرض الحج : عن ابن عباس رضي الله عنهما ، في قوله تعالى :
فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ) يقول : من أحرم بحج أو بعمرة ثم حبس عن البيت ، فعليه ذبح ما استيسر من الهدي : شاة فما فوقها ، يذبح عنه . فإن كان حجة الاسلام ، فعليه قضاؤها . وإن كان حجة بعد حج الفريضة فلا قضاء عليه . وقال مالك : إنه بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء هو وأصحابه الحديبية فنحروا الهدي ، وحلقوا رؤوسهم ، وحلتوا من كل شئ ، قبل الطواف بالبيت ، ومن قبل أن يصل الهدي إلى البيت . ثم لم يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أحدا من أصحابه ، ولاممن كان معه أن يقضوا شيئا ، ولا يعودوا له . والحديبية خارج من الحرم . رواه البخاري . قال الشافعي : فحيث أحصر ذبح ، وحل ، ولاقضاء عليه من قبل أن الله لم يذكر قضاء . ثم قال : لانا علمنا – من تواطئ حديثهم – أنه كان معه في عام الحديبيةرجال معروفون ، ثم اعتمروا عمرة القضاء فتخلف بعضهم في المدينة ، من غير ضرورة في نفس ولا مال ، ولو لزم القضاء لامرهم بألا يتخلفوا عنه . وقال : وإنما سميت عمرة القضاء ، والقضية ، للمقاضاة التي وقعت بين النبي صلى الله عليه وسلم ، وبين قريش ، لا على أنه واجب قضاء تلك العمرة . جواز اشتراط المحرم التحلل بعذر المرض ونحوه : ذهب كثير من العلماء ، إلى جواز أن يشترط المحرم عند إحرامه ، أنه إن مرض تحلل . فقد روى مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لضباعة : ” حجي ، واشترطي أن محلي حيث تحبسني ” . فإذا أحصر بسبب من الاسباب ، من مرض ، أو غيره ، إذا اشترطه في إحرامه فله أن يتحلل وليس عليه دم ، ولاصوم .
كسوة الكعبة كان الناس على عهد الجاهلية يكسون الكعبة ، حتى جاء الاسلام فأقر كسوتها . فقد ذكر الواقدي عن إسماعيل بن إبراهيم بن أبي حبيبة عن أبيه قال : كسي البيت في الجاهلية الانطاع ( 1 ) ثم كساه رسول الله صلى الله عليه وسلم الثياب اليمانية . وكساه عمر وعثمان القباطي ( 2 ) ثم كساه الحجاج الديباج . وروي : أن أول من كساها أسعد الحميري وهو ” تبع ” . وكان ابن عمر رضيا لله عنهما يجلل بدنه القباطي والانماط ( 3 ) والحلل ، ثم يبعث بها إلى الكعبة يكسوها إياها ، رواه مالك . وأخرج الواقدي أيضا إسحاق بن أبي عبد بن أبي جعفر محمد بن علي قال :
( 1 ) ” الانطاع ” جمع نطع وهوما يفرش على الارض كالبساط ، ويصنع من الجلد الاحمر . ( 2 ) ” القباطي ” جمع قبطية . وهو الثوب من ثياب مصر ، رقيق أبيض لانه منسوب إلى القبط ، وهم أهل مصر . ( 3 ) ” الانماط ” جمع نمط ، نوع من البسط
كان الناس يهدون إلى الكعبة كسوة ، ويهدون إليها البدن عليها الحبرات ( 1 ) فيبعث بالحبرات إلى البيت كسوة . فلما كان يزيد بن معاوية كساها الديباج . فلما كان ابن الزبير اتبع أثره . وكان يبعث إلى مصعب بن الزبير ، ليبعث بالكسوة كل سنة فكان يكسوها يوم عاشوراء . وأخرج سعيد بن منصور : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، كان ينزع ثياب الكعبة في كل سنة ، فيقسمها على الحاج فيستظلون بها على السمر ( 2 ) بمكة .
تطييب الكعبة عن عائشة رضي الله عنها قالت : طيبوا البيت ، فإن ذلك من تطهيره . وطيب ابن الزبير جوف الكعبة كله . وكان يجمر الكعبة كل يوم برطل من مجمر ( 3 ) ويجمرها كل جمعة برطلين .
النهي عن الالحاد في الحرم قال الله تعالى : ( ومن يرد فيه بالحاد ( 4 ) بظلم نذقه من عذاب أليم ) . وروى أبو داود عن موسى بن باذان قال : أتيت يعلى بن أمية فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه ” . وروى البخاري في التاريخ الكبير ، عن يعلى بن أمية أنه سمع عمرو ابن الخطاب رضي الله عنه يقول : ” احتكار ” الطعام إلحاد ” .
( 1 ) ” الحبرات ” جمع حبرة ، وهو ما كان مخططا من البرود من ثياب اليمن . ( 2 ) ” السمر ” نوع من الشجر . ( 3 ) ” المجمر ” العود الذي يتطيب به . ( 4 ) ” الالحاد ” أي العصيان .
وروى أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما : أنه أتى ابن الزبير وهو جالس في الحجر فقال : يا ابن الزبير ، إياك والالحاد في حرم الله عز وجل ، فإني أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ” يحلها رجل من قريش . ” وفي رواية ” سيلحد فيه رجل من قريش ، له وزنت ذنوبه وذنوب الثقلين لوزنتها ” فانظر أن لا تكون هو . قال مجاهد : تضاعف السيئات بمكة ، كما تضاعف الحسنات . وسئل الامام أحمد : هل تكتب السيئة أكثر من واحدة ؟ فقال : لا ، إلا بمكة ، لتعظيم البلد . غزو الكعبة روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” يغزو جيش الكعبة ، فإذا كانوا ببيداء ( 1 ) من الارض يخسف بأولهم وآخرهم ” قلت : يا رسول الله ، كيف وفيهم أسواقهم ( 2 ) ومن ليس منهم ؟ قال : ” يخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نياتهم ” .
استحباب شد الرحال الى المساجد الثلاثة عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” لاتشد الرحال ، إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجدي هذا ، والمسجد الاقصى ” . رواه البخاري ، ومسلم وأبو داود . وفي لفظ : ” انما يسافر إلى ثلاثة مساجد : مسجد الكعبة ومسجدي ، ومسجد إيليا ( 3 ) ” . وعن أبي ذر رضي الله عنه قال ، قلت : يا رسول الله ، أي مسجد وضع في الارض أول ؟ قال : ” المسجد الحرام . ” قلت : ثم أي ؟ قال : ” المسجد الاقصى . “
( 1 ) ” بيداء ” فلاة وصحراء . ( 2 ) أسواق : جمع سوق . وقد يكون في السوق الصالحون لقضاء مصالحهم . ( 3 ) ” إيليا ” : القدس .
قلت : كم بينهما ؟ قال : ” أربعون سنة ، ثم أين أدركتك الصلاة بعد فصل ، فإن الفضل فيه ” . وإنما شرع السفر إلى هذه المساجد الثلاثة ، لما فيها من فضائل وميزات ليست في غيرها . فعن جابر رضي الله عنه . أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه . إلا المسجد الحرام . وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه ” . رواه أحمد بسند صحيح . وعن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” من صلى في مسجدي أربعين صلاة ، لا تفوته صلاة كتبت له براءة من النار ، وبراءة من العذاب ، وبرئ من النفاق ” . رواه أحمد ، والطبراني ، بسند صحيح . وقد جاء في الاحاديث : أن فضل الصلاة في مسجد بيت المقدس أفضل مما سواه من المساجد – غير المسجد الحرام والمسجد النبوي – بخمسمائة صلاة .
آداب دخول المسجد النبوي وآداب الزيارة : 1 – يستحب إتيان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسكينة والوقار ، وأن يكون متطيبا بالطيب ، ومتجملا بحسن الثياب . وأن يدخل بالرجل اليمنى . ويقول : أعوذ بالله العظيم ، وبوجهه الكريم ، وسلطانه القديم ، من الشيطان الرجيم . بسم الله ، اللهم صلي على محمد وآله وسلم ، اللهم اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب رحمتك . 2 – ويستحب أن يأتي الروضة الشريفة أولا ، فيصلي بها تحية المسجد ، في أدب وخشوع . 3 – فإذا فرغ من الصلاة – أي تحية المسجد – اتجه إلى القبر الشريف مستقبلا له ومستدبرا القبلة ، فيسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا : ” السلام عليك يا رسول الله . السلام عليك يا نبي الله . السلام عليك يا خيرة خلق الله من خلقه . السلام عليك يا خير خلق الله . السلام عليك يا حبيب الله . السلام عليك يا سيد المرسلين . السلام عليك يا رسول الله رب العالمين . السلام عليك يا قائد الغر المحجلين . أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أنك عبده ورسوله وأمينه وخيرته من خلقه . وأشهد أنك قد بلغت الرسالة ، وأديت الامانة ، ونصحت الامة ، وجاهدت في الله حق جهاده ” . 4 – ثم يتأخر نحو ذراع إلى الجهة اليمنى . فيسلم على أبي بكر الصديق ، ثم يتأخر أيضا نحور ذراع . فيسلم على عمر الفاروق رضي الله عنهما . 5 – ثم يستقبل القبلة ، فيدعو لنفسه ، ولاحبابه ، وإخوانه وسائر المسلمين . ثم ينصرف . 6 – وعلى الزائر أن لا يرفع صوته إلا بقدر ما يسمع نفسه وعلى ولي الامر أن يمنع ذلك برفق . فقد ثبت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى رجلين يرفعان أصواتهما في المسجد النبوي فقال : لو أعلم أنكما من البلد ، لاوجعتكما ضربا . 7 – وأن يتجنب التمسح بالحجرة – أي القبر – والتقبيل لها ، فإن لك مما نهى عنه الرسول عليه الصلاة والسلام . روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” لا تجعلوا بيوتكم قبورا ، ولا تجعلوا قبري عيدا . وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم ” . وقد رأى عبد الله بن حسن رجلا ينتاب قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعاء عنده فقال : يا هذا ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” لا تتخذوا قبري عيدا . وصلوا علي حيثما كنتم ، فإن صلاتكم تبلغني ” ، فما أنت – يا رجل – ومن بالاندلس إلاسواء .
استحباب كثرة التعبد في الروضة المباركة : روى البخاري عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ( 1 ) ، ومنبري على حوضي ” .
استحباب إتيان مسجد ” قبا ” والصلاة فيه : فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيه كل سبت ، راكبا وماشيا ويصلي فيه ركعتين . وكان عليه الصلاة والسلام يرغب في ذلك فيقول : ” من تطهر في بيته ، ثم أتى مسجد قباء ، فصلى فيه صلاة ، كان له كأجر عمرة . ” رواه أحمد ، والنسائي ، وابن ماجه ، والحاكم ، وقال : صحيح الاسناد . فضائل المدينة روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال : ” إن الايمان ليأرز ( 2 ) إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها ” . وروى الطبراني عن أبي هريرة – بإسناد لا بأس به – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” المدينة قبة الاسلام ، ودار الايمان ، وأرض الهجرة ، ومثوى الحلال والحرام . ” وعن عمر رضي الله عنه قال : غلا السعر بالمدينة فاشتد الجهد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” اصبروا ، وأبشروا فإني قد باركت على صاعكم ومدكم ، وكلوا ولا تنفرقوا ، فإن طعام الواحد يكفي الاثنين ، وطعام الاثنين يكفي لاربعة ، وطعام الاربعة يكفي الخمسة والستة ، وإن البركة في الجماعة ، من صبر على لاوائها وشدتها ، كنت له شفيعا وشهيدا يوم القيامة ، ومن خرج عنها ، رغبة عما فيها أبدل الله به من هو خير منه فيها ، ومن أرادها بسوء أذابه الله كما يذوب الملح في الماء ” . رواه البزار بسند جيد .
( 1 ) قيل في معنى ” روضة من رياض الجنة ” : أن ما يحدث فيها من العبادة والعلم يشبه أن يكون روضة من رياض الجنة . ويكون هذا كقوله عليه الصلاة والسلام ” إذا مررتم برياض الجنة . فارتعوا . ” قالوا يا رسول الله ، وما رياض الجنة ! قال : ” حلق الذكر ” . ( 2 ) ” يأرز ” أي ينضم ويتجمع .
فضل الموت في المدينة روى الطبراني بإسناد حسن عن امرأة يتيمة كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثقيف ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليمت ، فإنه من مات بها كنت له شهيدا ، أو شفيعا يوم القيامة ” . ولهذا سأل عمر – رضي الله عنه – ربه أن يموت في المدينة . فقدروى البخاري عن زيد بن أسلم عن أبيه ، أن عمر قال : اللهم ارزقني شهادة في سيبلك واجعل موتي في حرم رسولك صلى الله عليه وسلم .